قد يبدوا التعامل من جانب القوى السياسية المختلفة مع حكم إبطال تعيين المستشار طلعت عبدالله طبيعيا ومتوقعا فى ظل الأجواء الاستثنائية وغير الطبيعية التى نعيشها عقب ثورة 25 يناير فالبعض خاصة من جانب أغلبية المنتمين للتيار الإسلامى نظر للحكم على أنه مخالف للدستور وأن القضاء بحاجة للتطهير، وأن بعض القضاة جزء من الثورة المضادة، وأن عزل طلعت عبدالله يصب فى مصلحة الفاسدين الذى بدأ عبدالله فتح ملفاتهم التى كانت مجمدة فى عهد النائب العام السابق، بينما ترى القوى المعارضة فى الحكم صفعة للإخوان ودليلا على عدم احترام الرئيس للقانون وسارعت للمطالبة بتنفيذ الحكم فورا، وأعلنت أنها لن تعترف بطلعت، ولن تمثل أمامه وقامت بعض قوى المعارضة بالتظاهر والاعتصام أمام دار القضاء العالى، وإغلاق الباب الرئيسى لمكتب النائب العام بالجنازير، وهدد البعض بمنع النائب العام من دخول مكتبه والبعض طالب بعودة النائب العام السابق عبد المجيد محمود مرة أخرى بينما رأى العدد الأكبر بضرورة قيام مجلس القضاء الأعلى باختيار نائب عام جديد للخروج من هذا المأزق والبعض رأى أن هذا الحل ينهى أزمة النائب العام بطريقة مناسبة لكل الأطراف، ويساعد على حلحلة الموقف السياسى ويلبى أحد طلبات المعارضة مما يخفف من حالة الاحتقان السياسى من الممكن تفهم ردود الأفعال هذه بما فيها من شطط وتطاول وتجاوز من البعض فى ظل أجواء الاحتقان والانقسام التى تشهدها الساحة السياسية المصرية إلا أن الشىء الذى لا يمكن تفهمه ولاتقبله على وجه الإطلاق هو موقف القضاء وردود أفعالهم على الحكم، والتى اتسمت للأسف الشديد بالخروج على القانون والتقاليد القضائية الراسخة بما يؤدى الى الإجهاز على البقية الباقية من هيبة القضاء والثقة به التى اهتزت كثيرا جراء طريقة تعامل القضاة مع الإعلان الدستورى فى نوفمبر الماضى، وما صاحبه من مواقف غريبة على القضاة من تعليق للعمل بالمحاكم، والزج بالقضاء فى أتون السياسة، وحضور السياسيين اجتماعاتهم ومحاصرة النائب العام،وإجباره على تقديم استقالته، وإعلانهم عدم أحقية الرئيس فى إصدار إعلانات دستورية دون انتظار لأحكام القضاء الى غير ذلك من المواقف التى هزت الثقة بهم بدلا من أن يعلنوا عن غضبهم واعتراضهم على الإعلان بالطريقة التى تتوافق مع هيبة القضاء من تسجيل اعتراضهم فى محاضر الجلسات ،وإصدار بيانات بموقفهم واللجوء للقضاء - كما حدث بالفعل - وانتظار الأحكام القضائية دون إعلان موقفهم منها واستباق الأحكام وبدلا من أن يعى القضاة الدرس نجدهم يقعون للمرة الثانية فى عدة أخطاء فى التعامل مع حكم إبطال تعيين طلعت عبدالله تجلت فى بعض النقاط من أبرزها:. النقطة الأولى:. تفسير القضاة لحكم المحكمة فما إن صدر الحكم حتى انفجرت التعليقات والتحليلات للحكم من جانب السياسيين ومن يطلق عليهم الفقهاء القانونيون والقضاة السابقون والحاليون،والذين أدخلونا جميعا فى متاهة بسبب كم التناقض والتباين فى آرائهم حول الآثار المترتبة على هذا الحكم والتى جعلت جميع فئات المجتمع فى حيرة من أمرهم وما يهمنا التوقف عنده هو موقف القضاة ووكلاء النيابة الذين علقوا على الحكم فى وسائل الإعلام المختلفة فللأسف الشديد جاءت تعليقاتهم لترسخ صورة الانقسام داخل الهيئات القضائية كما غلبت على أرائهم القضائية الجانب السياسى أكثر من الجانب القانونى، وكان اسم الضيف على الفضائيات كفيل بمعرفة رأيه مسبقا فالمؤيدون لطلعت عبدالله لم تخرج آرائهم على أنه النائب الشرعى طبقا للقانون والدستور،وأن الحكم الذى صدر هو حكم ابتدائى سيتم الطعن عليه، وأن الحكم غير واجب النفاذ، وأن كل قراراته سليمة حتى صدور حكم النقض بينما الطرف الآخر يؤكد أن الحكم واجب النفاز وأن الطعن لايوقف التنفيذ وأن أى قرار يصدره باطل بل ذهب البعض أن كل قراراته منذ تعيينه باطله، وأن استمراره فى موقعه بالحكم يمثل جريمة، ويعرضه لعقوبة الامتناع عن تنفيذ حكم قضائى والمشكلة الحقيقية أن هذه الآراء للأسف الشديد نابعة فى الغالب الأعم من قناعات سياسية بعيدا عن القناعات القانونية البحتة، وهو الأمر نفسه الذى نجده فى آراء القانونيين الذى جاءت مواقفهم متوافقة مع قناعتهم السياسية لا القانونية المجردة وللأسف فإن هذه الآراء تزعزع الثقة فى القضاء، وقد شاهدت أحد البرامج الذى اسضاف مذيعه أربعة من المعارضين لطلعت عبدالله بالإضافة له هو شخصيا - والذى كان أكثر حماسة من الجميع - والمطالبين بالتنفيذ الفورى للحكم ،بينما اكتفى بمداخلة تليفونية لأحد المستشارين الذىن يرون أن الحكم غير واجب النفاذ، والذى لم تتح له الفرصة كاملة للتعبير عن رأيه وسط المقاطعات من الضيوف والمذيع المهم فى هذا الحوار ما ذكره أحد وكلاء النيابة الضيوف من أن حزب الحرية والعدالة هو الذى يحدد أسماء من يصدر قرار بضبطهم وإحضارهم وهذا كلام خطير لأنه يظهر قناعاته الشخصية والتى قد تنعكس على قراراته، ولقد قفز الى ذهنى فور سماع هذا الكلام ما يثيره البعض من أقاويل حول الإفراج عن أعداد كبيرة ممن يقدمون للنيابة فى وقائع الإعتداء على المنشئأت وأعمال الشغب بصورة لافتة للنظر، وتساءلت بين نفسى عن الموقف الذى سيتخذه هذا الوكيل وغيره ممن عندهم هذه القناعات إذا عرض عليه شكوى أوبلاغ يتعلق بعضو ينتمى للإخوان أوالحرية والعدالة أو عضو معارض لهم، وهل يمكن الاطمئنان لهم وهم يتولون الإشراف على العملية الانتخابية؟ إن هذه القناعة لاشك موجودة لدى قطاع عريض من أعضاء الهيئات القضائية خاصة بعد الإعلان الدستورى فى نوفمبر، وإن كانوا يغلفون مواقفهم تحت باب الحديث عن استقلال السلطة القضائية، والبعض الأخر يشير لرغبة فصيل معين دون أن يصرح باسم الإخوان للسيطرة على القضاء وإذا كان القاضى مطالبا بالحياد والحكم بمايمليه عليه ضميره بعيدا عن الهوى فإن القاضى فى النهاية بشر خاصة فى ظل هذه الأجواء المتوترة التى نعيشها بعد الثورة النقطة الثانية:. الحفاوة الكبيرة التى استقبل بها هذا الحكم من القضاة والذين اعتبروه انتصارا للسلطة القضائية ولدولة القانون وتبارى البعض الآخر فى التأكيد على صحة الحكم وأنه جاء مؤيدا لما أبداه من آراء حول بطلان عزل النائب السابق وتأكدا لرؤيته، والواقع أن هذه التصريحات فى منتهى الخطورة لمخالفتها القانون فلايجوز التعليق على أحكام القضاء مدحا ولاذما، ويبقى السؤال ماذا لوألغى النقض حكم بطلان تعيين طلعت عبدالله، وأقر بشرعيته فماذا سيكون موقف هؤلاء ؟وهل سيقبلون بالحكم الذى من المفترض أنه هو عنوان الحقيقة ،وهو هذه المرة سيكون حكم نهائى وبات ؟ وهل نستطيع أن نلوم من يعلق على أحكام القضاء بعد أن تورط الكثير من القضاة فى هذا الأمر وبعد أن أصبح من الأكليشهات المعتادة الآن للمعلقين على أحكام القضاء أنه يجب احترام أحكام القضاء وعدم التعليق عليها ثم يبدأون بعد هذه العبارة مباشرة فى الانقضاض على الحكم إما طعنا وتجريحا أو مدحا وتقريظا!!! النقطة الثالثة:. مطالبة بعض القضاة مؤسسات الدولة وطلعت عبدالله باحترام الحكم وعدم الطعن عليه، وهذا الكلام وبمفهوم المخالفة يعنى أن الطعن على الحكم يعنى عدم احترام القضاء، وهو أمر يدعو للدهشة أن يكون استخدام شخص أو هيئة أو مؤسسة من مؤسسات الدولة لحقها الذى كفله الدستور والقانون بالطعن على حكم أول درجة أمام المحكمة الأعلى عدم احترام للأحكام القضائية، وإذا سلمنا بهذا فلماذا لانلغى محكمة النقض والإدارية العليا ونكتفى بدرجة واحدة فقط للتقاضى؟!!! وهل من العدل أن نفرض الحجر على النائب العام ونحرمه من حقه فى الطعن على الحكم؟!!! إن من إيجابيات الدستور التى لايتوقف عندها كثيرا المادة (77 )التى تنص فى فقرة منها على استئناف الأحكام الصادرة فى جنحة أو جناية وبهذ النص تمت إضافة درجة ثانية للتقاضى فى الجنايات والتى كانت تقتصر على درجة أولى الأستئناف ثم النقض فأضافت هذه المادة درجة ثانية قبل النقض وقد أعطت المادة (234) وهى من المواد الانتقالية مهلة سنة لتنفيذها النقطة الرابعة:. مطالبة بعض القضاة ومايسمى بلجنة شباب القضاة وأعضاء النيابة العامة المجلس الأعلى للقضاء بتنفيذ الحكم بعزل طلعت عبدالله واختيار نائب عام جديد وهو مطلب يعقد الأمور ولا يحلها على الإطلاق خاصة بعد إعلان النائب العام أنه سيطعن على الحكم فماذا لوتم اختيار نائب عام جديد ثم جاء حكم النقض بشرعية تعيين النائب العام طلعت عبدالله، وهو مايعنى عودته مرة أخرى فهل يتم تعيين نائب عام جديد ربما لايستمر فى منصبه سوى أسابيع قليلة ؟ومن الذى يقبل هذا المنصب وهو يعلم أن مركزه مهدد ؟ النقطة الخامسة:. مسارعة القضاة وعلى رأسهم نادى القضاة وبعض أندية الأقاليم، وأعضاء النيابة العامة بالتلويح بتصعيد الأمور بكافة الوسائل وتهديد أعضاء النيابة بالاعتصام أمام مكتب النائب العام لإقالته فى حالة عدم تنفيذ الحكم، فمن الذى نصبهم جهة تنفيذ أحكام حتى يقومون بتنفيذ الحكم بأنفسهم؟!!! ولماذاإذن ننتقد ونلوم الأهالى الذين اغتصبوا سلطة الدولة وقاموا بعقاب بعض البلطجية بأنفسهم؟!!! وماهى علاقة نادى القضاة بهذه القضية وهو ليس طرفا فيها ؟!!! على رجال القضاء أن يضربوا القدوة والمثل فى الالتزام بالقانون والتقاليد القضائية الراسخة ، وأن يتعاملوا مع هذا الحكم فى إطار قانونى صرف بعيدا عن أى مؤثرات أخرى، وأن يتركوا الإجراءات القانونية المتبعة فى هذا الصدد تأخذ مجراها الطبيعى،وأن ينتظروا حتى تسدل محكمة النقض الستار على هذه القضية بحكم قضائى بات ونافذ، إما بتأييد الحكم أو إلغائه وعلى الجميع فى هذه الحالة الالتزام به وتنفيذه على الفور، وهذا هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة من الناحية القانونية على الأقل * مدرس التاريخ الحديث والمعاصر كلية التربية – جامعة دمنهور [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]