كلّما بدَت الصورة في اليمن قاتِمة ومُقلقلة بسبب ما تشهَده البلاد من توتّرات أمنية واضطرابات اجتماعية وسياسية، ارتفعت معها الأصوات الدّاعية إلى الحوار، سواء منها تلك المُنطلقة من الداخل أو القادِمة من الخارج، وآخرها دعوة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح إلى حوار وطني لمناقشة مُختلف القضايا على أساس احترام الثوابِت الوطنية، كما جاء في دعوته الموجّهة لرئيس مجلس الشورى. وعلى الرّغم من أهمية هذه المبادرة التي كسرت حالة الجمود المُحيطة بفكرة الحوار الوطني، الذي تأجل لأكثر من مرّة، إلا أن تحقيقها للغايات المرجُوة منها، وهي الخروج من حالة الاحتِقان السياسي والاجتماعي والأمني الذي تعيشه البلاد، ما زالت غير واضِحة المعالِم، نتيجة للظروف الحاصِلة على المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية من جهة، ونتيجة لارتفاع سقْف مطالِب الأطراف، ذات العلاقة بالأوضاع التي وصل إليها حال البلاد، من جهة أخرى. ففي الوقت الذي خاطَب فيه الرّئيس صالح مجلس الشورى للتّحضير لحوار وطني شامل، شنّ الطيران الحربي هُجوما مُتزامنا على ما وصفه بمعسكرات تدريب لتنظيم القاعدة في محافظة "أبين"، جنوب البلاد وعلى منطقة "أرحب"، شمال العاصمة صنعاء، أسفرت عن سقوط عشرات القتلى من المدنِيين، من بينهم أربعة من عناصر القاعدة، وإلى القبْض على عدد آخر منهم في عملية قالت عنها الحكومة إنها ضربة استباقية هدفت إلى إفشال هجمات كانت تلك العناصر تتهيَّأ لتنفيذها ضدّ مصالح حكومية وغربية، إلا أن هذه العمليات أدّت إلى احتجاج العديد من الأطراف السياسية المُعارضة في الداخل والخارج، مُعتبرة أنها استهدفت قتْل المدنيين. ومن تلك الأطراف المحتجّة مَن كان مرشّحا للدّخول في الحوار المنتظر، مثل الرئيس السابق علي ناصر محمد ورئيس الحكومة الأسبق أبو بكر العطاس، واللذيْن اعتبرا أن الهجوم يتنافى مع الدّعوة إلى الحوار التي أطلقها صالح. وعلى المِنوال ذاته، أدان نائب الرئيس اليمني الأسبق علي سالم البيض ومحافظ أبين السابق محمد علي أحمد العملية، الأمر الذي بعث على اعتقاد الكثير من الأوساط والمُتابعين على أن تلك الأطراف بإدانتها للعملية العسكرية ضدّ القاعدة وبلهجة قوية لما خلّفته من ضحايا في صفوف المدنيين، على الرغم من ظاهرها الإنساني، لم تكن ببريئة من الحسابات السياسة التي فرضتها التحضيرات الجارية للحوار، وأن كل فريق سعى من خلالها إلى التذكير بحضوره، مع أنها قضية لا يخلو الموقف منها من مخاطرة بالسُّمعة السياسية لِما قد يُفهم من ذلك الموقف بأنه بمثابة تأييد ضمني لتنظيم القاعدة المُستهدف بتلك العملية، وهو ما ذهبت إليه الحكومة التي بادرت إلى الرّبط بين إدانة الهجوم من قِبل معارضة الخارج والتعاطف مع تنظيم القاعدة. تصعيد متبادل موقف المعارضة في الداخل ممثلة بتكتّل "أحزاب اللقاء المشترك" هي الأخرى، لم تشذ عن إدانة الهجوم. فقد صعّدت من لهجتها ضدّ الحكومة لِما قامت به من استهداف للمدنيين، إلا أن هذه الأخيرة، وعلى الرغم من إطلاقها لدعوة الحوار الوطني، بادرت إلى اعتبار مثل هذه المواقف تعاطُفا مع الإرهاب وصعّدت من لهجتها تُجاه ما اعتبرته تناقُضا في مواقف المعارضة تُجاه أعمال الإرهاب التي جلبت الدّمار للبلاد، وتجمع كل القوى على تجفيف منابعها. المراقبون والمتابعون، بقدْر ما يلحظون تصعيدا لتوتر العلاقة بين مكوِّنات العمل السياسي اليمني، يرون أن التصعيد المُتبادَل مقدّمة للدخول في حوار حقيقي هذه المرة، لاسيما أن قِوى دولية وإقليمية تقِف وراء الدفع بالسلطة والمعارضة إلى الحوار المُنتظر، وهي الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج، التي يجمعها الخِشية من اتِّجاه الأوضاع في البلاد نحو مزيد من الانفِلات والحيلولة دون وقوع اليمن تحت خطِّ الدول الفاشلة، مما قد ينعكِس سلبا على المنطقة والعالم. ضغوطات إقليمية ودولية وحسب مصادر عليمة أكّدت ل "swissinfo.ch أن "تلك الأطراف الإقليمية والدولية مارست وتُمارس ضغوطا قوية على السلطة والمعارضة على السواء، بهدف حملهما وقبولهما بالمشاركة في الحوار وخروج كل طرف منه بأكبر قدر من المكاسب، وهو ما يبدو واضحا من رفع سقْف مطالب اللاّعبين المعنيِّين به ومن شروطهم للمشاركة، وبما لا يُضعف أوراق اللعب الخاصة بكل لاعب منهما، خاصة مع اشتداد الضغوط الخارجية هذه المرّة عليهم، وهذا أمر طبيعي، حسب ما يراه مدير مركز سبأ للدراسات الإستراتيجية الدكتور أحمد عبد الكريم سيف المصعبي في حديثه ل swissinfo.ch بقوله "لاشك أن الكثير من المطالب والشروط ستُثار قبل الحوار، نتيجة لعدم الثقة بين طرفي العملية السياسية، السلطة والمعارضة التي ترسّخت بسبب فشل الحوارات السابقة"، ولذلك يتوقّع سيف أن تتصاعد الخلافات حول عدد من المسائل، أبرزها: التركيبة، فهي تحتاج إلى مراجعة وفحْص دقيقين. ثانيا، أجندة الحوار لابد أن تحدِّد القضايا التي ستكون موضع المتحاورين وأن تكون متضمّنة في وثائق كي يتمحوَر حولها النقاش. ثالثا، الإطار الزمني، لابد أن يكون السّقف الزمني محدّدا وليس مفتوحا، لأن ذلك من شأنه أن لا يعجِّل بحل القضايا، وخاصة منها القضايا الملِحّة. رابعا، لا يمكن لأي حوار أن يحقِّق غاياته، ما لم تكن هناك آليات وضمانات لتنفيذ ما يتَّفق عليه، وتكون تلك الضمانات محددة مُسبقا. خامسا، لابد أن يضمّ الحوار كل الأطراف التي لها علاقة بالأوضاع التي تشهدها البلاد حاليا، وهذه الجوانب يتوقّع سيف أن يشتدّ حولها الجدل، لاسيما قبل الشروع في الدّخول بالحوار المرتقب. ضمانات للمعارضة وتمسك بعدد من المطالب وفي إشارة على هذا المسْعى الهادف إلى تحقيق أكبر قدْر من الضّمانات للمعارضة، بادر اللقاء المشترك إلى التمسّك بعدد من المطالب، وهي حسب رؤية الكُتلة البرلمانية لأحزاب اللقاء المشترك قبل كل شيء: الشروع باتخاذ الإجراءات الكفيلة بتهيِئة الأجواء السياسية للحوار، وتشمل حسب وجهة نظر المعارضة: وقْف نهج الحلول العسكرية والأمنية في التعاطي مع القضايا المُلتهبة في الجنوب وصعدة وإطلاق سراح المعتقَلين السياسيين وسُجناء الرأي وإيقاف حملة التضييق على الصحافة والصحفيين وإيقاف الحملات الإعلامية التحريضية وإلغاء كافة الإجراءات المخالفة لاتِّفاق فبراير 2009 والبدء بإجراء حوارات للتّوافق على معالجات وطنية للقضايا التالية، القضية الجنوبية وقضية صعده، ومناقشة وإقرارا لإصلاحات السياسية والتعديلات الدستورية والقانونية والإصلاحات الانتخابية، بما في ذلك القائمة النسبية وتعديل قانون الانتخابات وتشكيل اللجنة العليا للانتخابات. ويقول القيادي المعارض في اللقاء المشترك محمد الصبري ل swissinfo.ch: موقف المعارضة واضح ومتطابق مع البيان الصادر عن اللجنة التحضيرية للحوار الوطني، الذي أكّد أن مشاركة لأحزاب المعارضة غير واردة، ما لم يكن هناك قبول لمناقشة كافة القضايا التي سبّبت الأزمة، مشيرا في هذا الصّدد إلى أن استجابة السلطات لمطالب الحوار، ليست إلا من باب إسقاط واجب، وتريد بطرحه بالطريقة التي تمت من خلال اللجنة الأمنية والعسكرية العليا أن تقول إنها قد دعت الآخرين، لكنهم لم يستجيبوا. وذهب الصبري إلى أن "وثيقة الإنقاذ الصادرة عن اللجنة التحضيرية للحوار الوطني، هي الإطار النظري المعبّر عن مُجمل القضايا التي يتعيّن أن يدور حولها الحوار، وأن البيان قد ربَط بين الالتزام بمُقتضيات الوثيقة وضمانات نجاح الحوار". لكن في المقابل، ثمة مَن يرى أن وضع شروط من هذا القبيل أو الرّبط بين المشاركة وبين التشديد، على أن تكون وجهة نظر ما هي المرجعية المُطلقة للتحاور سلفا، من شأنه أن يُعرقل انطلاقة الحوار. "لا يُفترض ولا يجوز أن يجعلوا من الوثيقة شرطا من شروط التحاوُر" وفي هذا الإطار، يرى المدير التنفيذي لمركز سبأ للدراسات الإستراتيجية أن "الاعتداد بوثيقة الإنقاذ الوطني الصادرة عن اللجنة التحضيرية والتمسك بها من قِبل أحزاب اللقاء المشترك كمنطلق للحوار، أمر لا ينسجِم بأي حال مع مُقتضيات العقل ولا مع متطلّبات الحوار نفسه، الذي عادة ما يدور حول رُؤى ومُنطلقات متباينة، بتباين واختلاف المتحاورين". وِوفقا لتلك البديهية، يرى المصعبي أنه "لا يُفترض ولا يجوز أن يجعلوا من الوثيقة شرطا من شروط التحاوُر"، لأن أي حوار، حسب رأيه، يُفترض أن يضم رُؤى كل أطراف الطيف السياسي والمدني، وحتى الاجتماعي، وأنه لا يمكن الإدِّعاء أن اللقاء التشاوري أو ما يُسمّى بوثيقة الإنقاذ المُنبثقة عنه، هي محصلة لتمثيل وطني لعدة اعتبارات منها "أن الطرف الأهم، وهو السلطة، غابت عنها كما سبق أن أبدت رفضها لها، علاوة على كل ذلك، اختيار الشخصيات السياسية للتشاور التي شاركت في صياغة تلك الوثيقة، لم يتم على أساس وطني وإنما عبْر التواصل والعلاقات الشخصية، واقتصر على حلقات محدّدة، الأمر الذي يجعلها رُؤية لطرف واحد، وبالتالي، يمكن أن تكون إحدى الوثائق المطروحة للنقاش، وليس شرطا للحوار". محددات السلطات ورفض المعارضة السلطات اليمنية من جهتها، منذ إطلاقها الدعوة للحوار الوطني الشامل، تبدي تمسُّكا شديدا بمنطلقاتها الخاصة التي ظلت ترفعها في وجه المعارضة، وأبرزها احترام الشرعية الدستورية والالتزام بالثوابت الوطنية والاصطفاف الوطني في مواجهة التمرّد الحوثي وضد الدّعوات الانفصالية في الجنوب، وتعتبرها محدّدات للحوار طِبقا لِما ورد في الدّعوة التي وجّهها الرئيس اليمني لمُختلف الفعاليات المقرّر مشاركتها في هذه العملية السياسية، غير أن تلك المحدّدات لا تلقى قبولا لدى المعارضة، لأنها لا تأخذ في الاعتبار المستجدّات التي طرأت على الساحة اليمنية وما تمخّض عنها من فاعلين في معارضة الداخل أو الخارج، والشرعية الدستورية التي تحتجّ بها السلطات، ليست من وجهة نظر المعارضة، سوى محصِّلة لتزوير الانتخابات السابقة وناتجة عن الهيمنة للحزب الحاكم على مجمل الوسائل المادية والرمزية، كما تعتبر أن مواجهة تمرّد الحوثيين في صعدة وحِراك الجنوب بالوسائل العسكرية والمقاربة الأمنية وحدها، لم تؤدِّ إلا إلى المزيد من تأزّم الأوضاع، وأدخلت البلاد في دوّامة من الأزمات، حسب ما تردِّده قيادة المعارضة وتطالب أن تكون جلّ أطرافها مشاركة في الحوار المُنتظر، وهو ما لا تقبل به الحكومة التي تذهب أبعد من ذلك باتِّهامها للمعارضة بإثارة هذه المشاكل من جهة، واستثمارها سياسيا من جهة أخرى، بهدف الضّغط عليها بُغية تحقيق مكاسب سياسية لم تستطع أن تنالها عن طريق صندوق الانتخابات، وترى أنها تسعى إلى تسوية تفرض فيها المعارضة شروطها مستفيدة من الأوضاع الحرِجة التي تمرّ بها البلاد. الدور الخارجي.. هل سيصل إلى نتيجة؟ بين حسابات المعارضة ومخاوِف السلطات منها وتمسّك كل طرف بموقفه، يبقى التعويل على الدّور الخارجي الذي يبدو هذه المرّة حاضرا بقوّة لكي يدفع بأطراف اللّعبة السياسية الرئيسيين إلى لعِب السياسية بقواعد جديدة قد تتمخّض هذه المرة عن التِقائهم على طاولة الحِوار الذي تقف وراءه قوى دولية وإقليمية معنية بوقف تدهْور الأوضاع في اليمن، خاصة بعد تمدّد خطر تلك الأوضاع إلى دول المنطقة، كما بدت تباشيره في تمدّد حرب المتمردين الحوثيين إلى السعودية ونقل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب إلى اليمن، مما يستدعي بذل الكثير من الجهود الإقليمية والدولية لإخراج هذا البلد من حالة الجمود السياسي الذي أصابه وانعكس على مختلف نواحي الحياة العامة فيه، إذ أصبح الثابت أنه كلّما اشتدت الخلافات بين السلطة والمعارضة، اشتدت المواجهات مع المتمردين الحوثيين شمال البلاد وتصاعدت الاحتجاجات الشعبية في الجنوب وزادت التحديات الأمنية التي تشكِّلها عناصر تنظيم القاعدة، وكلها عوامل إذا ما تُرك لصنعاء وحدها مواجهتها، وهي التي تُعاني أصلا من صعوبات اقتصادية غير مسبوقة، لعجّلت بما باتت تحذِّر منه الكثير من دوائر صُنع القرار في البلدان الفاعلة على المستوى الدولي والإقليمي، وهو فشل الدولة اليمنية وما قد يترتّب عليه من انعكاسات على المنطقة وعلى مصالح القِوى الكبرى فيها. إجمالا، يبدو أن تصاعُد المخاطر الأمنية والاضطرابات الداخلية وما تحمله من تحديات على مستقبل الدولة في اليمن وعلى المجتمع الإقليمي والدولي، ستُجبر مختلف اللاعبين على القبول بالحدّ الأدنى ممّا يطالبون به وترحيل موعِد الحوار من 26 من الشهر الجاري إلى بعد أسبوعين من هذا التاريخ، وهي محاولة أخيرة لإعطاء فرصة لكل أطراف الأزمة كي يراجعوا سقْف مطالِبهم التي كانت في الأصل أهمّ الأسباب التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم، لذلك، سيبقى السؤال الأكثر إلحاحا هو: هل الحوار المرتقَب سيُخرج اليمن ممّا هو فيه؟ أم أنه سيزيد الطين بلّة إذا ما أصَرّ كل طرف على عدم التنازل عن سقف مطالبه؟ المصدر: سويس انفو