كنت أشعر ببعض القلق وأنا أقرأ منذ عدة سنوات إعلانًا مبوبًا للمخابرات المركزية الأمريكية على نصف صفحة تقريبًا في مجلة الإيكونومست البريطانية تطلب فيها جواسيس (هكذا وبصراحة) للعمل في الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط، وفيه يعدد الإعلان الشروط المطلوبة من القدرة على التحدث بالإنجليزية والعربية بطلاقة وغيرها من الشروط، أما أعجب تلك الشروط التي جعلتني ابتسم رغم أنفي هي (ألا يقرب الخمور – وألا يكون قد أدمنها في العامين السابقين للإعلان)، والغرض بالطبع ليس دينيًا وإنما التأكد من ألا يزل لسانه في أوقات (الانبساط). وشعرت آنذاك فقط بالقلق من أن يهوي العشرات من الشباب وممن نأمل فيهم أن يكونوا نخبة هذا الوطن إلى بئر الخيانة، وخاصة أن الإعلان كان في مجلة اقتصادية عالمية مرموقة لا يقرأها إلا النخبة التي تلقت قدرًا طيبًا من التعليم، واقتصرت مشاعري حينئذ على القلق. أما ما أصابني بمزيج من مشاعر الفزع والهلع والغضب والألم وكل ما يمكن أن ينتابك من مشاعر مماثلة في هذا الموقف، هو أن أجد بعدها بفترة ليست بالقصيرة، إعلانًا مماثلًا في صحيفة الأهرام الرسمية لمصر وفي عددها الأسبوعي المقروء وعلى نطاق واسع عدد يوم الجمعة، وإن كان الإعلان يتستر هذه المرة تحت اسم مخادع وهو (باحثين أو جامعي معلومات)- وكان من ضمن الشروط المخزية في بنود الإعلان (أن يكون المتقدم للوظيفة له أقارب من كبار المسئولين). وتوقعت أن (تقوم البلد ولا تقعد) في اليوم التالي، ولكن ران صمت القبور على البلاد وعلى كافة وسائل الإعلام، وقررت أن أكون إيجابيًا وكتبت خطابًا ناريًا للجريدة أعتب فيه على الإعلان الفظ – وطلبت فيه على ما أتذكر: من كل كاره لوطنه، وأسرته وأهله، ومن كل ديوث لا يخشى على أعراض أهل بيته، ومن كل كاره لديانات ومقدسات وطنه من إسلام ومسيحية، وكل كاره لنهر النيل والأهرام وكل حبة رمل في بلده، أن يتقدم فالمقابل سخي جدًا وبالدولار الأمريكي وليس بالجنية المصري، ولم تنشر الجريدة الرد كما لم تعتذر أو تذكر شيئًا عن الإعلان، وفضلت الجريدة أن تحافظ على الزبون والمعلن الكبير (السفارة الأمريكية) على مصلحة البلاد العليا، وقمت بتقديمها بعد ذلك لجهة سيادية ولم أعرف مصيرها بطبيعة الحال. ومعنى ذلك ببساطة هو ما يعرفه العامة والخاصة – مئات بل قل الآلاف ممن يتنكرون تحت أسماء باحثين أو خبراء في منظمات المجتمع المدني والتي تم إنشاؤها تحت رعاية غربية، أو إسرائيلية، أو صحفيين أو مقدمي برامج، أي أنه تم إنفاق كل أموال المعونة الأمريكية لشراء الذمم وتسميم الأفكار ونشر القيم الغربية، ويتم بالطبع إدارة هذه الحملات عن طريق خبراء متخصصين في غسيل الأدمغة (بحيث يعتقد هؤلاء العملاء أنهم يخدمون بلادهم – أو أنهم أعضاء في جبهة إنقاذ – وليسوا جبهة تخريب للبلاد). ولا تتعلم الولاياتالمتحدةالأمريكية من دروس التاريخ، فكما وقفت مع شاه إيران ضد الشعب الإيراني ونالت كراهية من الصعب أن تمحوها الأيام، وفعلت نفس الشيء في دولة شيلي، واستطاعت أن تكتسب كراهية كل دول أمريكا اللاتينية الموجودة (في فنائها الخلفي). وهناك كتاب خطير يحكي قصص تدخلات المخابرات الأمريكية في هذا الصدد والكتاب اسمه (الإطاحة: قرن كامل من الإطاحة الأمريكية بالأنظمة من هاواي حتى العراق)، من تأليف ستيفن كينزر، وهو من أبرز المراسلين الأجانب لعدد من الصحف الأمريكية. ويحكي الفصل الثامن من هذا الكتاب ما حدث في شيلي عندما قامت الولاياتالمتحدةالأمريكية بالإطاحة بحكومة منتخبة – وتتشابه ظروف هذا الحدث مع ما يحدث الآن في مصر وبطريقة مذهلة- وكانت المخابرات الأمريكية قد قامت بشراء الآلاف من العملاء عن طريق مكتبها في سنتياجو من أعضاء في البرلمان وصحفيين وقيادات عليا في الجيش والشرطة وقضاة ورؤساء في النقابات العمالية ومنظمات المرأة – بل وقامت بشراء أكبر صحيفة في شيلي وهي صحيفة كان يرأسها أحد رجال الأعمال – ومحطة راديو!! (طبعًا كان هذا الأمر في السبعينيات ولم تكن هناك فضائيات قطاع خاص مما يسهل الأمر كثيرًا في العصر الحالي). وقد حدث الأمر نفسه مع العديد من عمليات الإطاحة، والثورات، وعمليات الغزو التي شنتها الولاياتالمتحدةالأمريكية من أجل خلع الأنظمة التي كانت تخشى منها أو لا تثق في نواياها. وقد استخدمت الولاياتالمتحدةالأمريكية العديد من الوسائل لإقناع الدول الأخرى بتنفيذ أوامرها، وكانت تعتمد في الكثير من الحالات على أساليبها العريقة من الدبلوماسية، وتطبيق سياسة العصا الغليظة والجزرة بتقديم المكافآت للحكومات التي تدعم المصالح الأمريكية والتهديد بالانتقام لأولئك الرافضين للسير في ركابها، وتقوم أمريكا بالدفاع عن الأنظمة الصديقة في بعض الأحيان ضد الانتفاضات الشعبية التي تهب في هذه البلدان، وفي غير قليل من المرات، وفي أكثر من مكان قامت بدعم انقلابات أو ثورات قام بتنظيمها آخرون، وقد ساعدت مرتين، في سياق الحروب العالمية على القضاء على نظم حاكمة قديمة، ووضعت بدلًا منها نظمًا جديدة. ويمكنك أن تفسر ببساطة – بما شاء لك عقلك - إعلان كل رموز جبهة الإنقاذ لرفضهم القاطع الجلوس مع كيري قبل حضوره (هل رأيت وطنية أكثر من ذلك)، وجلوسهم معه عند حضوره (ربطة معلم)، فهل رأيت تراجعًا مخزيًا أكثر من ذلك؟ ثم يكيلون الاتهامات للرئيس بأنه دائم التراجع، أحترم تراجع الرئيس وعدم مكابرته إذا ما وجد ما يستحق التراجع عنه، لأن قراراته تؤثر على أمة بأسرها، أما تراجعكم المهين فلا تفسير له.