ما حدث في مباراة مصر والجزائر لم يكن فقط فوزًا للجزائر، يرفعها لنهائيات كأس العالم المقبلة، ولكنه كان فوزًا أكبر لأنظمة سياسية، استغلت المباراة لتحقيق بعض المكاسب لقادتها، تحت شعار واحد هو: "الغاية تبرر الوسيلة". نحتاج العودة للوراء قليلاً إلى ما قبل مباراة الفريقين بالقاهرة، حتى نرى الصورة كاملة، سواء في مصر أو الجزائر، وسيدهشك للوهلة الأولى التشابه الكبير في صورة البلدين، فهنا وهناك نظام سياسي لديه خطط عديدة لامتصاص ما تبقى من ثروات بلده، والقضاء على معارضيه وخصومه؛ حتى يستتب الأمر له ولعائلته عشرات السنين، والمباراة كانت فرصة لا تعوض في إلهاء الجماهير لتمرير بعض منها وفرض البعض الآخر. كذلك ستجد في البلدين نظامًا يبحث عن أي شكل من أشكال الشرعية والالتفاف والتأييد الجماهيري في أي شأن ولو كان كرة القدم، والاستفادة من ذلك كله وصبه في خانة قيادته الجديدة المخولة لجمال مبارك أو في خانة سعيد بوتفليقة. والسؤال: هل يحتاج النظامان مثل ذلك التأييد وهما يكتسبان الشرعية بقوة السلاح؟ الإجابة: قد تكون لا في الوقت الحالي؛ ولكن مع سيناريو التوريث بالبلدين، فكلا الرجلين يحتاج تأييدًا شعبيًّا كبيرًا، يعزز أوراقه، ويقلل من حظوظ معارضي نقل السلطة إليه، ففي مصر لم يستتب الأمر بعد لجمال مبارك الذي يتخوَّف كثيرًا من رد فعل الجيش وانقلاباته والمخابرات ومكر قياداتها؛ لذا يحاول حصد ما يستطيع من التأييد الجماهيري ليكون سلاحه في مواجهة خطط معارضي نقل السلطة لمدني من أصحاب البدل العسكرية، وطبق الصورة نفسها في الجزائر ليدهشك ما بينهما من تشابه. وحين تستبد السياسة وتتزاوج السلطة مع المال يخدمهما الإعلام، فمن المعروف أن الفضائيات المصرية مملوكة لرجال أعمال إما أعضاء في لجنة سياسات الحزب الوطني أو شركاء لمسئولي النظام الحالي؛ لذا كان التفنن من مقدمي البرامج لإرضاء مالكي القنوات ومن ثم النظام، ولتحقيق أعلى جذب جماهيري ولو على حساب فتنة لا تمر بين دولتين شقيقتين وشعبين إخوة في الدين والعروبة؛ ومن ثم فلا يعد مستغربًا استفزازات برامج "التوك شو" وكل الجرائد الحكومية والقريبة من الحكومة، سواء في مصر أو الجزائر. الصورة بعد لم تكتمل إلا بنظرة على الجماهير؛ لتجد شعوبًا ترفض التخلي عن ثقافة القطيع، وتضع قيادتها في يد كل من حمل بوقًا إعلاميًّا أو منصبًا رسميًّا، وتضني نفسها في البحث عن انتصار زائف يمحو جميع هزائمهم العلمية والعملية وحتى العاطفية، وتعاملوا مع المباراة على أنها مخدر يسكن مصائبهم، وقد يرسم بسمة مشوهة على وجوههم، وكسبيل للتعبير عن وطنيتهم وحبهم لبلادهم؛ وهو سبيل مأمون العواقب وسهل التكاليف، ويملأ السمع والبصر، غير تلك الطرق الصعبة التي تجعلك في مواجهة النظام وحتى مواجهة نفسك للعمل الحقيقي لرفعة وطنك والسمو به. أما أكثر المقصرين فهم المثقفون في كلا البلدين، فلا تستطيع لوم فاسد يعلن فساده ويخدم مصلحته ولو على حساب بلده، ولن تقسو على جاهل تربَّى في مستنقع الأمية والفساد وضياع الخلق واختلال القيم؛ لكنك لن تعفو أبدًا أولئك النفر من الرجال والنساء ممن فهموا ذلك المخطط الذي يحاك لهم ولأمتهم، فتقاعسوا عن تنبيه الناس ورفع الالتباس، واختاروا إما الهدوء والصمت حتى تمر العاصفة، أو تركوا أنفسهم للاكتئاب وللقطيع يأخذهم في تياره حيث يشاء، فيما يصطاد عملاء الغرب في الماء العكر برفع شعارات الكرامة والوطنية ضد إخوانهم وغيرها من الرايات التي لا محل لها في هذه الساحة. وكنا نتمنى من هؤلاء المثقفين والمصلحين أن يكونوا صناع الحدث لا أن يغيبوا عن الرد عليه، والاستسلام لما يُحاك ضد بلادهم، إلا أن المباراة لم تنتهِ بعد، وخطط الفريقين باتت واضحة ومكشوفة والأرض ستظل ملك من يعمل عليها، ولو كان هناك مؤشر خير في الطرفين فهو التعبير غير السوي عن حب الأوطان، وتلك العصبية التي علينا تحويلها للإسلام بدلاً من الكرة، وذلك غير أصوات عديدة ظنوا بأنفسهم وبإخوانهم خيرًا وقالوا هذا بهتان عظيم، وإن لم يكن لدى المصلحين خطة ناجعة لكسب البطولة واستغلال الأحداث، فالفريق الآخر لن يألو جهدًا للفوز والانتصار. المعطيات الحالية تصب في صالح النظامين، ولا أريد أن أطبق نظرية المؤامرة، فأرى اتفاقًا غير مكتوب بين النظامين لنشر الفتنة وتطويل أمدها، ودليل ذلك اكتفاء الطرفين بتصريحات ممجوجة حول الكرامة وعدم التهاون بدون أي فعل حقيقي أو طلب اعتذار رسمي؛ لأن ذلك سيفتح تحقيقًا هنا وهناك سينهي تلك الفتنة بإدانة المسئولين عنها ومحاسبتهم، وهذا ما يضاعف دور الإصلاحيين ويزيد مهمتهم في قتل الفتنة ومحو آثارها، بل والاستفادة مما أوجدته من مشاعر وانفعالات. والحدث الأخير كان خير دليل على المراهقة التي يعيشها كلا الشعبين، اللذين تصر قيادتهما على عدم تجاوزها، واتضح ذلك في بيان النمو الكبير عاطفيًّا وانفعاليًّا والمغالاة الشديدة وغيرها من سمات المراهقة، ودور المصلحين ليس المواجهة والاصطدام ولكن كدور المربي والمرشد بالتوجيه عن طريق الحوار، والأزمة لن تنتهي طالما تقاعسوا عن دورهم في الحوار، سواء كسلاً أو لعدم الإحساس بأهميته أو لعدم القدرة على القيام بمتطلباته، وعلى سبيل المثال لا تحاول أن تسفه من ذهب للمباراة، وانشغل بها، وهو يراها دليل حب لوطنه؛ ولكن افتح الحوار حول المعنى الحقيقي للوطنية، وتقصيرنا الكبير لو ربطناه فقط بأقدام اللاعبين. كما ينبغي توضيح أن مفهوم الكرامة والغضب لا بد أن يختلف حين يكون اسم الجاني محمد وليس ليفني، فالأخير قصدي هو الرد والضرب والردع أما الأول فهو أخ وخطؤه إن احتاج لعقاب فبقصد التربية والتهذيب والتقويم؛ حتى يستقيم عوده ويدعمني وأدعمه في مشوارنا الأهم نحو الأقصى.