لم أكره أحدًا من بنى وطنى كراهيتى لحسنى مبارك، وذلك لما فعله من تخريب الوطن والمواطن، والكلام عن ذلك هو من نافلة القول المعاد، ولكننى ويشهد الله لم أقبل يومًا -رغم ما ارتكبه ونظامه من جرائم- أن يشتمه أحد بأمه وأبيه بألفاظ نابية تنم عن سوء أخلاق شاتمها، متجاوزًا حدود النقد الذى يبين خراب السياسات، وأذكر أننى جمعتنى جلسة فى التسعينيات مع بعض الرفاق وكان من بينهم أشقاء خليجيون، وانتقدنا نحن المصريين سياسة مبارك المخربة، وإذ بأحد الأشقاء العرب يتطاول عليه بكلمة، فزجرناه زجرًا جميلاً مراعاة لكونه ضيفًا، وقلنا له: لا يحق لك أن تتطاول على رئيس مصر. فاعتذر فى خجل. لقد ظلت هذه أخلاقنا التى ربانا عليها أهلنا، ولم يشذ عن هذا النهج إلا شتائم عبد الرحمن يوسف الشعرية، وكنا نعلم أنها تغلفت بمسحة أدبية وللشعر أسلوبه وطريقته، ولكننا لم نسمع يومًا أن عبد الرحمن يوسف تطاول بشتائم نثرية مباشرة فى حق الرئيس، ولم يشفع لشتائمه إلا كونها شعرًا، وظلت هذه أخلاقنا حتى قيام ثورة يناير العظيمة، وأذكر أن غالبية اللافتات لم تتجاوز حدود الأدب رغم جسامة الموقف وفداحة وعِظَمِ الحدث، وكان أقذع ما تضمنته (ارحل يعنى امشى .. يمكن ما بيفهمشي) وقد عبرت أغلب اللافتات فى هذا الموقف العصيب عن خفة الدم ولم تحمل أبدا قلة أدب أو ألفاظًا نابية. لقد ظلت أخلاق القرية هى الغالبة على المصريين؛ ويأتى فى مقدمتها احترام الكبير وتقدير عامل السن والمكانة الاجتماعية، اعتقادا بأن ذلك يحفظ للمجتمع استقراره ووقاره، فمن تعود إساءة الأدب مارسها مع ذويه وأمه وأبيه. كان المسيحيون يذكرون مشايخنا بقولهم (مولانا) وكان المسلمون يذكرون قساوستهم بقولهم (أبونا) ولم تكن هذه العبارات تعكس لدى الجانبين عقيدة دينية، وإنما تعكس أخلاقا اجتماعية، أعتقد أننا فقدنا كثيرًا منها، وأصبحنا نألف الشتائم والتطاول على الجميع من أول رئيس الجمهورية إلى جميع الرموز الدينية والسياسية؛ وهذه الشتائم إنما تعكس تدنى الأخلاق ولا يمكن أن تعكس بحال من الأحوال رؤية سياسية أو حبا لهذا الوطن. وإذا أردنا أن نرصد تاريخ قلة الأدب فى مجتمعنا الذى كان شعاره (الأدب فضلوه على العلم) أستطيع أن أقول إنها بدأت للأسف من لسان بعض المنتمين إلى أحد التيارات المعروفة، وسأكون صريحًا وأرجو ألا يغضب من صراحتى أحد؛ فقد بدأ هذا التيار فى التطاول على العلماء الذين يخالفهم الرأى بفهمه الأحادى للدين، والخطأ الكبير لهذا التيار أنه بدأ فى تلقين تلك الشتائم والتطاول للشباب الصغير فى سابقة جديدة على مجتمعنا، فكنا نرى ونسمع طلاب الإعدادية والثانوية، فضلا عن الجامعة إذا ذكر بعض العلماء كشيخ الأزهر الراحل الشيخ طنطاوى أو غيره، يتطاولون ويقولون إنهم كذا وكذا.. بأقذع ما يوجه لمسلم من شتائم التسفيه والتحقير، وقد وصلت أحيانا إلى التكفير، ولم يُجِرِّأهُم على ذلك إلا ذلك التيار، لقد بدأت هذه الموجة من جرأة الصغار على الكبار آنذاك، ومنها كانت بداية التطاول وخروج المواطن المصرى عن أخلاق القرية منذ الصغر، ولم تكن دولة مبارك تردع هذه الظاهرة؛ لرغبتها فى تنامى تيار مناهض فى فكره الدينى لتيار الإخوان المسلمين، خاصة أنه لم تكن لذلك التيار آنذاك أية طموحات سياسية. ثم عبرنا بالثورة إلى مرحلة جديدة، فخلع الجميع عباءة الدين وارتدوا بدلة السياسة حسب الموضة، والبعض ارتدى بدلة السياسة فوق عباءة الدين ولم يكترث بمظهره المضحك، ولا أدائه العجيب، والمؤسف حقًّا أن عدوى التطاول والشتائم وقلة الأدب استشرت فى المجتمع، وانتقلت من المجتمع الدينى إلى السياسي، فتلقفتها وأذكتها طوائف سياسية صدمها وصول الإسلاميين للسلطة، فأغروا بهم السفهاء ليواصلوا سينفونية الشتم والسباب نهارًا جهارًا فى الطرقات وعلى شاشات الفضائيات، ولا يعزينى فى سلوك الفريقين الدينى والسياسى إلا قول أحمد شوقي: وَإِذا أَتى الإِرشادُ مِن سَبَبِ الهَوى ** وَمِنَ الغُرورِ فَسَمِّهِ التَضليلا وَإِذا أُصيبَ القَومُ فى أَخلاقِهِم ** فَأَقِم عَلَيهِم مَأتَمًا وَعَويلا إِنّى لَأَعذُرُكُم وَأَحسَبُ عِبْئَكُم ** مِن بَينِ أَعباءِ الرِجالِ ثَقيلا نعم والله يا أمير الشعراء، عبئنا ثقيل، وليلنا طويل، ونحن فى حاجة عاجلة لقوانين صارمة تعود بنا إلى أخلاق القرية، والقضاء على هذا الشغب، حتى لا نعانى من الفقر وقلة الأدب. [email protected]