طارق البشر ى يعرف قراء العربية اسم المستشار طارق البشري مؤرخا ومفكرا شغلته القضايا السياسية والوطنية، لكن قليلين هم من يعرفون كيف ساهم الأدب في بناء شخصية البشري منذ الطفولة. وإذا كان تأثير جده الإمام الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر معروفا إلي حد ما فإن تأثير عمه، عبد العزيز البشري، أحد أعلام الأدب في النصف الأول من القرن العشرين يبقي تأثيرا مميزا، ربما كان من مفاتيح فهم روح الدعابة التي يتميز بها المستشار طارق البشري، برغم الجدية والرصانة اللتين تتسم بهما كتاباته. عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ببيروت أصدر الباحث ممدوح الشيخ في سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي كتابا عن البشري تتصدره عبارة لطارق البشري يقول فيها: "لَقَد رَجوتُ اللهَ سُبحَانَهُ، وأرجوه أَبَدَاً، أن أَكونَ لا عَليَ مِلكِ أَحَدٍ مِن الناسِ، وأَن أَكونَ عَلي حُكمِ مِلكِهِ تعالي، ورَجَوتُهُ وأَرجوهُ تعالي أَن يُبقيَ علي مِلكي التامِ، تِلكَ المَسافَةَ الصغيرةَ التي لا تَتَجاوزُ حَجَمَ الحَصاةِ، والتي تَقَعُ بَينَ سِنِ القَلَمِ وسَطحِ الوَرَقِ، وأَن يُبقيَهَا لي حَرَمَاً آمِنَاً، لا تَنفَتِحُ لِغَيرِ النظَرِ والفَهمِ، ولا تَنفَتِحُ لِدَخَلٍ أَو غَصبٍ أَو غِوايَةٍ. وفي النِهايةِ، يَرِدُ الصوابُ والخَطَأُ، صَوابُ مُجتَهِدٍ وخَطَأُ مُجتَهِدٍ، واللهُم هَذا قَسَمي فيما أَملِكُ فلا تُؤاخِذني فيما لا أَملِكُ، وِممَّا زَاغَ عَنهُ البَصَرُ، أَو غَفَلَ عَنهُ الخَاطِرُ، أَو ندَّ عَنهُ الفِكرُ، أو قَصُرَ عَنهُ الفَهمُ". ويتضمن الكتاب حوار طويل يغوص من خلاله في أعماق الرحلة الإنسانية والتجربة الفكرية للبشري الذي ينتمي إلي أسرة مهنية: "لذلك كان أبي معنا وأنا مع أبنائي يشغلنا دائما كيفية تربية "مهني جيد" وهي مسألة مستهدفة ومتضمنة في مختلف عمليات التربية والتكوين". ويضيف البشري: "الجيل الذي تربينا فيه لم يكن يري العمل مجرد مصدر للرزق، وكثير من المدرسين الذين علمونا وكثير ممن قابلناهم في الحياة كان لديهم هذا البعد وبخاصة تحقيق الذات، رغم أن حالتهم المادية ليست ميسورة جدا، ومعظم معلمينا كانوا من محدودي الدخل. وجزء أساسي من تكويني جاء من هذين المصدرين". وعلي غير ما هو متوقع، كانت بداية البشري مع القراءة أدبية: "قرأت للعقاد وطه حسين توفيق الحكيم والمازني وغيرهم، وجاء بعد هذا المتنبي وأبو العلاء المعري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي، وكنت ذا مزاج تقليدي (كلاسيكي) في اختياراتي الأدبية". وقد أتيح للبشري ثروة هائلة من الكتب منذ وقت مبكر بفضل المناخ الذي نشأ وترترع فيه وكانت أولي المصادر مكتبة جده الشيخ سليم البشري، التي آلت بعد ذلك إلي الأزهريين من أولاد الشيخ سليم، وبعدها مكتبة الأب وكان يمتلك مكتبة دينية وقانونية قوية، وكان يقرأ في الأدب كثيرا، وفي الريف كان لدي البشري مكتبة دينية أخري في القرية هي مكتبة جده لأمه، الذي كان شافعيا. وتميزت قراءات البشري بالجدية فقرأ: "سقط الزند" وعمره 8 سنوات، واجتهد مع "اللزوميات" وقرأ شروحها. وعلي الرغم من اتجاهه إلي العلمانية لعشرة أعوام، فإن للأدب الصوفي دورًا مميزًا في تكوين طارق البشري وجدانيا، متأثرا بصفة خاصة بجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار. ويحدد البشري بداية اهتمامه بالأدب الصوفي قائلا: "كنت أقرأ في التاريخ وأنا علماني، وقرأت كتابا لزكي مبارك فأرشدني لنقطة مهمة هي أن التصوف هو البناء الوجداني في الإسلام". وعندما سئل طارق البشري عن التصوف الحلولي كابن عربي قال: "هذا تفلسف وليس تصوفا!!" أضاف: "في المرحلة العلمانية كانت قراءتي الصوفية مستمرة، وهذا أنظر إليه الآن بدهشة هل كان احتياجا قلبيا؟". ويتوقف المؤلف أمام ظاهرة عزوف البشري عن كل ما يشير إلي ميل مبالغ فيه لتقدير الذات قائلا: بحثت طويلا عن مصادر تتناول حياة الرجل فوجدتها نادرة بشكل ملفت حتي التقيته فقال لي إنه لم يكتب سيرته الذاتية ولا يفكر في كتابتها، معتبرا أن كتابتها تحتاج إلي قدر من حب الذات لا يجده في نفسه. وقد لفت نظري أنه عبر عن الفكرة نفسها في مقال بمجلة "الهلال" فاستهله قائلا: "يصعب الحديث عن "التكوين" دون أن يمتد الكلام إلي الذكريات، ولا زلت، رغم تقدُّم السن بي، معلق البصر بالمستقبل وما يصلح به وما ينبغي فعله، وهذا التوجه لا يتلاءم مع الالتفاف إلي الماضي واستدعاء الذكريات، ولا تزال أجهزة الاستقبال لدي أقوي من أجهزة الإرسال". ويستطرد البشري: "ومن ناحية أخري لم أعتبر التفكير في نفسي، أري ذلك نوعا من إطالة النظر في المرآة مما لا أحبه. والموقف المثالي في ظني أن ننظر في شأن آخر، أي أن "تفني" (بتعبيرات الصوفية) في موضوع تدرسه أو عمل تؤديه، حتي وإن كان عملا يدويا. ومن باب أولي لا أسيغ الحديث عن نفسي، يركبني الحياء وأشعر بعدم الجدوي، وأني أستنفد جهدي ووقت الآخرين في ما لا ينفع". "النشأة" عنوان الفصل الأول في الكتاب، يكشف عن شخصية البشري التي نضجت مستمدة ماءها من منابع عديدة إنسانية ومهنية وفكرية، وأن ملامحها الرئيسة تشكَّلت من رافدين رئيسين هما: العائلة والقضاء. وقد كان جد أبيه فلاحاً من أهالي قرية "محلة بشر" وتتبع مركز "شبرا خيت" بمحافظة البحيرة. ويبدو أنه كان رقيق الحال حتي أنه دفع أحد أولاده للعمل مع جماعة من "عمال التراحيل، يحرس ملابسهم" إذ كان صبياً وقتها، لم يتجاوز العاشرة من عمره. ولم يكن هذا الصبي سوي سليم البشري الذي أصبح فيما بعد شيخاً للسادة المالكية بمصر، وشيخاً للجامع الأزهر الشريف، وهو جد طارق البشري لأبيه. وفي محضن هذه العائلة تلقَّي طارق البشري أول معارفه قبل التعليم النظامي، فقد كان الشيخ سليم البشري "مؤسس عائلة" بالمعني الدقيق، وفي محضن هذه العائلة تفتحت عيون طارق البشري ومداركه. وعند قصة "فرار" الجد يتوقف المؤلف طويلا كونها مؤشرًا علي حضور "الأسطورة" بقوّة في المناخ الذي تفتّحت فيها عينا طارق البشري. فالجدّ، الذي أصبح فيما بعد واحداً من أكثر شيوخ الأزهر شهرة علي الإطلاق، لم ينتقل من قلب الريف إلي القاهرة بالتوافق مع مسار نهر الحياة الذي يفرضه السياق الاجتماعي الذي كان آنذاك قويا إلي درجة تجعل التمرّد عليه والسير "عكس التيار" مغامرة تحتاج شجاعة وخيالا معا. وخلال مسيرة طارق البشري العائليّة ستصادفنا "الأسطورة" عدة مرات لا شك في أنها خلقت لدي البشري الحفيد الاستعداد النفسي للنظر إلي الحياة نظرة مثالية لا يقهرها الواقع، بل إن "عباءة" الإمام الأكبر نفسها قد تحوّلت إلي أسطورة متجسدة في حياة الحفيد لسنوات، فتعلّق بها واستلهمها حتي بليت، وإن لم يبل أثرها فيه! وقد كان الدرس الأكثر تأثيراً في طارق البشري في المحضن الأوّل "العائلة" كما يرويه بنفسه قادماً من عالم المُثُل، وهو يدور حول معني "المعاناة والشموخ ومراعاة كرامة العلم وتبعة خدمة الدين، وصار أشبه بالبداهات أنّ القيمة الاجتماعيّة هي قيمة العلم والموقف، وليست قيمة المال ولا السلطان". وقد ساهمت عدة مواقف حفرت في ذاكرة البشري في تأكيد مركزية فكرة "التضحية" التي تحوَّلت خلال مسيرته الفكرية والشخصية إلي "أسطورة"، حتي أنه أصبح يري أن "مستقبل أمتنا يكمن في الاستعداد للتضحية". وعلي جسر التلاقي بين الاستعداد للسير عكس التيار، وفي الوقت نفسه، الاستعداد للاندراج في التراتبية (كما تعلم من العائلة) بلور البشري توازنا بين عالمي القضاء والفكر، ففي الأول كان رجل تراتبية بامتياز، وفي الثاني كان رجل المواقف الصلبة التي لا تأبه لسطوة ما هو سائد ولا تتردد في مواجهته. وفي الفصل الثاني يتتبع ممدوح الشيخ "مصادر التكوين الثقافي والفكري" سالكا الطريق الطويل الذي اتخذته رحلة التكوين وكذلك القيود التي فرضتها عليه مهنته كقاضٍ، فهي منعته من "ممارسات" عديدة يبدي فيها رأيه في الشأن الجاري أو ينخرط في تنظيمات سياسية، لكنها لم تمنعه أبدًا من أن يدخل عالم السياسة من بابي: التاريخ والفكر، فاختار طارق البشري موضوعات مؤلفاته التاريخية والفكرية وفقا لانحيازاته التي لم تجد طريقها للتحقق عبر الانخراط في العمل العام. ويري الشيخ أن من السمات المميزة لمسيرة المستشار طارق البشري تأثرها بثنائيات متقابلة: التمرد والاندراج، العمائم والطرابيش .. .. .. ومن الناحية الاجتماعية تأثر البشري بثنائية أخري كان لها أثر ممتد، إذ أمضي طفولته وصباه ومطلع شبابه بين العمائم والطرابيش، في أسرة ممتدة، مترابطة؛ تتغلب فيها علاقات القرابة علي الانفراد الطبقي الذي قد يميز بعض أعضائها. فضلا عن أنه أمضي تلك الفترة بين "المدينة" و"الريف". ويؤرخ الفصل الثالث "البشري قاضيا (وفقيها)" لرحلته مع القضاء حتي تقاعده في يونيو 1998، وربما يكون أفضل تلخيص لهذه الرحلة مقولة طارق البشري في احتفالية تكريمه إنه بقي سنتين بعد تعيينه في مجلس الدولة يتحسس طريقه ليري أيكون قاضيا صالحا أم لا؟ أيؤدي _ أو يستطيع أن يؤدي _ في مهنة القانون شيئا نافعا أم لا؟ ويضيف: "حين بلغت الثانية والعشرين كنت قد اطمأننت علي مسيرتي، فخرجت ذات يوم من مكان عملي إلي مسجد السادة المالكية، حيث قبر جدي الشيخ سليم البشري وصليت هناك ركعتين، ودعوت الله أن يوفقني، وعاهدته بعهد موسي عليه السلام "رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين".