دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطا – بستانا - لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ – رفع صوته بالبكاء - وذرفت عيناه – وهل يبكي الجمل إلا من أمر عظيم - فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذِفْراه – مؤخر رأسه وعنقه - إلى سنامه فسكت الجمل، فقال: "مَن رب هذا الجمل؟ لمَن هذا الجمل؟". فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها - فجعلها تحت تصرفك، لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وتركبوها وزينة - فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه". تكده وتُكرِهه وتتعبه وتكلفه ما لا يطيق، ولا تطعمه ولا تغذيه ما يكفيه. ألا ما أرق عاطفتك، وما أرأف نفسك، وما ألين كفك، وما أرحمك يا رسول الله، رحمت البشر، والحجر، وجذع الشجر، رحمت الجماد، والحيوان والإنسان، أرشدت إلى الإحسان، حتى إلى البهيمة العجماء، وعلمت الأمة الأمية أن بغيا دخلت الجنة في كلب سقته، وأن مؤمنة دخلت النار في هرة حبستها، فأظمأتها وأجاعتها. وليت هذا الفتى الأنصاري إذ أدب جمله بالعمل المتواصل، قدم له من الطعام ما يستعين به على كثرة العمل، ولكنه جمع عليه الشرين، "قلة العلف وكثرة العمل". ولو اكتفى بواحدة لقلنا: الغنم بالغرم، والحلوة بالمرة، وهذه بتلك. ولكنه الطمع الذي لو استطاع صاحبه أن يأخذ كل شيء، ولا يعطي إلا مضطرا، ولو خُلي بينه وبين نفسه التي تملَّكها الشحُّ لما أعطى. وإذا كان الفتى الأنصاري معذورا بصغر سنه، وقلة التجربة، فما عذر الكبار الناضجين، الذين يفعلون ذلك بالإنسان لا بالحيوان. كم وكم من البشر يبيت لا يؤنس وحدة ليله إلا مناجاة من يعلم بحاله، والدموع الحارة تسيل على الوجنات، لا تكف عينه عن الذرف، باكيا كما بكى الجمل، تكاد تنفلق كبده، أو ينشق صدره. حين تضيق الأرض علي الإنسان بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، وتغلق في وجهه الأبواب إلا باب الملك، ويسودُّ العالم أمام ناظريه، يرثي نفسه وهو على قيد الحياة كما يرثي الأحياءُ الأمواتَ، يشكو بثه وحزنه إلى خالقه. كم من يتيم يعاني ألم فقد الأب والنصير، وكم من لطيم يعالج لوعة فراق الأم والظهير، وكم من أب يتحسر على ضيق ذات يده ألا تطول ما يطلبه فلذات الكبد، وكم من مريض يقاوم الأمراض العضال، وكم من محروم يمنع نفسه التطلع لزهرة الحياة الدنيا التي لا يملكها، وكم من خادم يرفع ظلم سيده للسيد الذي لا سيد فوقه. إن مما يذهب بنفس الإنسان حسرات، ألا يجد الواحد من هؤلاء شخصا رحيما يربت على كتفه، أو يدا حانية تكفكف دموعه، أو صديقا حميما يبثه لواعج نفسه، أو نفسا سمحة توصي به خيرا، كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم، الغلام بجمله. إن الماكينات بأنواعاها المصنوعة من الحجارة والحديد والمعادن تحتاج طاقة لتتحرك، وإلى صيانة لتستمر، وإلا فسيأتي عليها وقت تتوقف عن العمل تماما، أو حتى تحصل على ما تريد، فما بالك بالإنسان، بالبشر، بابن آدم أخيك، باللحم والدم مثلك، فلا تكن مثل ابن آدم الأول قتل أخاه بالعدوان، وأنت تقتله بالحرمان. إن سنة الحياة أن تعطي ولو بعض ما تأخذ، وأن تبذل ولو قليل مما تحصل، أما هؤلاء الذين يريدون أن يأخذوا بغير عطاء، أو يحصلوا بدون بذل، ويحصِّلوا السعادة ولو على آلام البسطاء، ما استحقوا أن يولودا أو يكونوا. فاحذر أن تكون منهم. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]