يُحكَى أن رجلاً سأل الفارس عنترة بن شداد عن معنى الشجاعة، فأراد عنترة أن يشرحها عمليًا وليس بالكلام فقط، فطلب منه أن يضع كل منهما إصبعه فى فم الآخر، وأن يعض كلٌّ منهما إصبع صاحبه بقوة، وفعل الرجل، وبعد لحظات لم يطق عضة عنترة فصرخ متأوهًا، فقال له عنترة: لو لم تصرخ أنت لصرخت أنا، بَيَّنَ عنترة لصاحبه أن الشجاعة هى الصبر والتحمل. ويبدو أن هذه اللعبة هى المسيطرة الآن على طرفى النزاع السياسى فى مصر؛ الرئاسة والمناهدة باسم المعارضة، إنهما يظنان أن الشجاعة هى مدى تحمل كل منهما عضة الآخر، وهما فى الحقيقة يعيشان فى وهم كبير؛ لأن هناك فرقاً جوهرياً بينهما وبين ما فعله عنترة وصاحبه؛ فهما لا يعضان إصبعيهما، وإنما كل منهما مطبق على إصبع ورقبة الشعب المسكين، وهو الفارس المتحمل الحقيقي، أما هما فلا يتألمان لشيء؛ الذى يعانى من هذه العضة الطويلة هم الشباب الذين يتخرجون ولا يجدون عملاً، والفتيات اللائى تجاوزن سن الزواج ولا يجدن عريسًا بسبب فقر بلدنا وشبابنا، ومئات الآلاف من المصريين الذين لا يجدون قوت يومهم، ولا يأمنون على سيرهم وحلهم وترحالهم فى دولة ضعفت شرطتها وضاعت هيبتها. يتوهم الطرفان وهما يعضان أصابع ورقاب الشعب المسكين أنهما يكسبان مكاسب سياسية، فالمعارضة المناهدة تنتشى لمقتل طفل البطاطا فى التحرير، وتفرح لغلق المجمع فى وجه مصالح الناس، وتسعد بإلقاء المولوتوف على قصور الرئاسة، وتشعر بإنجاز سياسى كبير لقطع الطرقات، وتعطيل المترو لساعات، وخطف حقائب السيدات، بل والرجال أيضا، نعم ينتشون وإن أعلنوا غير ذلك..؟ فهذه الأعمال الإجرامية هى فى الواقع تمثل التعبير الشعبى عن موقفهم السياسى كما يظنون، والذى لا يعلمونه أن هذه الأعمال تجعل الشعب يلقى باللائمة عليهم بل ويتهمهم، ويكرههم يومًا بعد يوم، ويتجاوز الكراهية إلى التطاول والتخوين.. وبصراحة هم يستحقون. وفى الجانب الآخر تنتشى الحكومة عندما ينجح الإسلاميون فى تجميع مليون مواطن عند جامعة القاهرة، مقتنعين بأن هذه الأعداد الغفيرة ستمنح كل القرارات السياسية شرعية جماهيرية، وهم أيضًا يعيشون فى وهم مكشوف، لأن حشد الناس على أساس أنهم يجرجرون إلى الجنة جرًّا يجعل المشهد ملفقًا ومزيفًا وغير مقنع للقلة السياسية مهما بلغت الأعداد؛ فقد حسم الرسول الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم هذا الأمر من أول أيام الدعوة حين قال لابنته (يا فاطمةُ بنتَ محمَّدٍ أنقِذى نفسَكِ منَ النَّارِ فإنِّى لا أملِكُ لَكِ ضرًّا ولا نفعًا) فمن أراد طريق الجنة فليخلص النية والعمل لله تعالى، ثم يصلح علاقته بالعباد ورب العباد، وليولِّ وجهه شطر المسجد الحرام، وليس شطر قبة جامعة القاهرة ولا الميادين الثائرة، ولن يكون لهذه الجموع تأثير فاعل وحاضر فى المشهد السياسى إلا إذا كانوا خارجين للتعبير عن موقف سياسى خالص وهذا طبعًا مشروع ومقبول، ولكن الحوارات التى تجريها حتى القنوات الإسلامية معهم تشير إلى أن الموقف دينى أكثر منه سياسي، فهو مبنى على عواطف دينية وليس على رؤية سياسية، ويؤكد ذلك عدد ونوعية الوعاظ الذين يعتلون منصة جامعة القاهرة، وكذلك الهتافات المطالبة بتطبيق الشريعة، حتى إن الجمعة الأعظم والتى تجمَّع فيها الملايين كان عنوانها مطلبين واضحين (الشرعية والشريعة) فمطلب الشريعة مع نبله ومشروعيته يخصم كثيرًا من الوعى السياسى للمتظاهر؛ لأن الطرف الذى يتظاهر ضده من المفترض أنه ليس كافرًا ولا ضد الشريعة، إن الذى أنبه إليه وأؤكده أن الطرفين قد يخسران، لأنهما لا يراهنان على عض إصبعيهما وإنما عض أصابع ورقاب الشعب المسكين، فأرجو أن يجدوا مخرجًا من لعبة العض هذه قبل أن يصرخ الشعب فى وجههم صرخة واحدة مدوية. [email protected]