استخلص عمنا الشيخ عبدالرحمن بن خلدون "العبر" من تاريخ توالي انهيار وبنيان الدول خلال حركة الزمان. ولخص في "المقدمة" ميكانيكية صراع تداول السيطرة، وقال ما معناه: لكل زمن دولة ورجال. وصارت مقولته كأنها قانون مستمد من تاريخ العمران وتداول السلطان بقيام دول علي تخريب دول سابقة. وعلي النقيض لم تتحقق أبدا الأحلام الجميلة لفنان الفلاسفة أبو نصر الفارابي عن جنة أهل مدينة فاضلة يتعايشون بالحب في سلام، ويتعاملون بالعدل بلا حسد أو طمع في جاه سلطان أو سطوة مال. وفي ظني أن مسيرة الإنسانية ليست طريقين اثنين: أولهما تهافت علي متع الحياة في الأرض، وثانيهما رغبة عنها بأمل في نعيم الجنة الدائم بعد الموت، بل هناك طريق ثالث وسط بينهما. ذلك لأن الإنسان نجح خلال مراحل محددة من تاريخه الطويل في تحقيق التوازن بين "هوي النفس" في إشباع شهوات المتعة واللذة، و"جهاد النفس" في كبح جماحها بالخلق الفاضل لتحقيق الاستمتاع بنعمة الحياة وحلم الفضيلة معا. ويقينا أن الإنسان خلق ضعيفا، لكنه قوي بتدبير العقل. واستعاض بسلاح صنعه من الحجر أو فرع الشجر (الرمح والقوس والسهم) أو بالخداع، عن الناب والمخلب في صراعه مع الوحش. لكنه كان ومازال قاسيا دمويا جبارا عاتيا مخربا عندما يطمع فيما بين يدي إنسان آخر. لا يردع طمعه وجشعه إلا قوة بطش أكبر. كما قد يردعه ضمير! يعمل بوقود "حجيم النار"، وبالطمع في جائزة الخلود في جنة. وتوضح الحكاية التالية أن هدف صراع إنسان مع إنسان هو سلب إرادته!! وتقول: اشتهر "عنترة" بالبطولة، وهي قوة إرادة، حتي جاءه "آخر" قائلا: أنا أكثر منك بطولة وقوة! فرد عنترة: بالتجربة نحتكم! اضع إصبعي تحت ضرسك، وتضع إصبعك تحت ضرسي، ونعض. ومن تأوه خسر. سال الدم من الأشداق، وتكسرت العظام تحت الضروس، حتي صرخ الآخر: آه. فسحب عنترة إصبعه المتكسر وهو يقول: والله.. لو لم تقلها.. لقلتها قبلك. ذلك هو جوهر الصراع بين البشر، والفائز من تحمل الألم وصبر.