أعود إلي مقدمة ابن خلدون كلما أحسست بالحاجة إلي تعمق ما يجري حولنا من تقلبات في أوضاع الدول, المقدمة تتكون من ستة أبواب. الباب الثالث منها يتناول قضايا الدولة في تكوينها وتأسيسها. وفيما يتعاقب عليها من مراحل.. حتي يبدأ الزمان في النيل من قوتها.. وتدفعها قوارب الزوال وأمواج الأفول إلي أقدارها المحتومة. ابن خلدون لم يكتب تعريفا محددا لمفهوم الدولة كما يراه.. لكنك تفهمه من سياق أفكاره وشروحاته.. المدعومة بالأمثلة الحية من الواقع التاريخي المتحر. الدولة في تعريفها البسيط في حكم وأرض وشعب.. والثلاثة يندمجون في إطار مفهوم السيادة والهوية القومية الخاصة. وهي عند ابن خلدون تعني ذلك تماما.. لكن في إطارمفهوم الصراع والتمدد والسيطرة والتغلب وبسط النفوذ.. فبدلا من ثلاثية الحكم والأرض والشعب.. تسود ثلاثية مختلفة تتلخص في العصبية المدعومة بالقوة المادية.. والمدفوعة بأحلام السيطرة لتطوي تحت سلطانها ما تستطيع الوصول إليه من أراض.. وما تستطيع قهره من شعوب. ابن خلدون لم يكن مشغولا بالدولة في معناها القانوني الذي اهتدت إليه الإنسانية بصورة واضحة في مواثيق الأممالمتحدة والقانون الدولي المعاصر. الرجل كان مشغولا بالدولة في معناها السياسي.. الذي يتحرك في إطار صراعات القوي والنفوذ.. سواء اتفق ذلك مع القانون أو خرج عليه وانتهك حدوده.. مثلما هو الحال مع القوي الكبري في عصرنا الحديث.. التي اسمها دولة.. لكنها لا تلتزم بما تلتزم به الدول العادية من ضوابط القانون الدولي. أمريكا والصين وما يسمي بالسبع أو الثماني دول العظمي أو الكبري.. كلها نماذج واقعية ينطبق عليها مفهوم الدولة بحذافيره عند ابن خلدون.. فكلها تسعي للتمدد.. للاستحواذ.. لبسط الهيمنة والنفوذ.. للتأثير الفعلي الذي يتجاوز حكومتها وأرضها وشعبها.. لتؤثر علي حكومات وشعوب وأراضي الآخرين. أردت بهذه السطور أن أمهد للكتابة في الشأن السوداني كما نراه الآن. وأكتفي اليوم بقول ابن خلدون في الفصل التاسع من باب الدولة: الأوطان الكثيرة العصائب والقبائل قل أن تستحكم فيها دولة.. والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء.. وأن وراء كل رأي منها هوي وعصبية تمانع دونها.. فيكثر الانتفاض علي الدولة والخروج عليها في كل وقت.. وإن كانت ذات عصبية لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة. ونستكمل...