في الغربة البعيدة وتحت تأثير الحالة المرضية الكئيبة, تصلك أخبار الوطن متباعدة, لكنها من فرط الحساسية تشق القلب وتدمع العين, ليس فقط بسبب حالة اللا استقرار والسيولة السائدة والهشاشة الحكومية الواضحة, في أرجاء الوطن العربي ودوله من المشرق حتي المغرب. ولكن أيضا بسبب حالة التردي وخطايا التعدي التي تتعرض لها المهنة التي أحببناها منذ الصغر فاغتصبت منا روح الحياة في الكبر, وها هي الصحافة في الأرجاء العربية ترنو أحيانا إلي الانعتاق والتحرر والاستقلال, الذي بدونه لا حياة لها, وتندحر أحيانا أخري تحت ثقل الأقدام الغليظة, التي تريد أن تحولها إلي مجرد أبواق دعاية ومرايا لتلميع الأوجه.. وحين تكون علي البعد في وحشة الغربة, تنتمي أكثر وتحب أعمق الوطن الذي يعاني والمهنة التي تتألم, فلا تجد إلا ممارسة حرية التعبير أملا في تغيير الحال وتعديل الأفكار والسياسات وتحفيز الأجيال الشابة لعلها تنجح فيما فشلنا فيه, خاصة إذا تعلق الأمر بأحلام التغيير الديمقراطي الذي تهب رياحه من الآن فصاعدا... * في المشهد الأول من شجون الصحافة وهموم الصحفيين, يذهل الجميع أن المنطقة العربية تحولت إلي ساحة لقتل الصحفيين عمدا مع سبق الإصرار والترصد, والهدف هو اغتيال حرية الرأي والصحافة, يلتقي في ذلك دعاة التبشير بالديمقراطية من الأمريكيين والمتأمركين العرب, مع الحكومات الوطنية, مع الأحزاب السياسية المهيمنة الحاكمة المتحكمة, القائدة والرائدة.. والنتيجة أن مائة صحفي واعلامي عربي وأجنبي قتلوا بالرصاص والصواريخ والمتفجرات في مقتلة العراق منذ الغزو والاحتلال الأمريكي في مارس عام2003 حتي الشهر الماضي, وفي فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني, قتل اثنا عشر صحفيا علي مدي الأعوام الثلاثة الأخيرة, وبالأمس غير البعيد قتل64 صحفيا واعلاميا في الجزائر خلال سنوات الصدام الدموي بين الحكومة والجيش من ناحية, والجماعات الاسلامية من ناحية أخري, فضلا عن اغتيالات فردية في هذا البلد العربي أو ذاك. وبالأمس القريب وضعت كمية من المتفجرات تكفي لنسف نصف مدينة, في سيارة الصحفي اللبناني الليبرالي المعروف سمير قصير متعدد الانتماءات العربية, فهو سوري الأب فلسطيني الأم لبناني الانتماء والحياة, لكن ذلك لم يشفع له, وإنما حق عليه العقاب القاسي لأنه كان طويل اللسان في صراحة التعبير عن رأيه المخالف, متصورا أن وهم الديمقراطية اللبنانية يحميه! فمات سريعا, لحسن حظه, علي عكس صحفي لبناني آخر, قتل قبل سنوات بعد تعذيبه بصورة وحشية, جري خلالها اذابة يده اليمني التي كان يكتب بها معارضا, في حامض الأسيد ليكون عبرة لغيره.. وقد كان! الموت الجسدي يظل أسهل الحلول للجاني والمجني عليه, لكن الموت المعنوي يظل هو الأشد إيلاما, لمجمل الصحفيين العرب, الذين باتوا تحت التهديد المستمر بالحبس والسجن والاعتقال والتعذيب والاهانة والإذلال, إذا ما تجرأوا وتطوعوا بالمجاهرة برأي حر أو بفكر مخالف لفكر ذوي السلطة والسلطان, وانظر حولك ثم تحسس رأسك كما قال صديقنا الراحل الشاعر صلاح عبد الصبور, قبل أن يقتل بسم الكلام الجارح والتهم الباطلة التي اغتالت رقة قلبه, قبل أن ينفض مجلس الاتهام من حوله!! عقوبة حبس الصحفيين مازالت سيفا فوق رقاب الجميع, فمن المغرب والجزائر وموريتانيا غربا, حتي العراق والبحرين والكويت شرقا, تظل القوانين المشددة في قضايا الرأي والنشر هي الحاكمة, برغم كل الوعود العلنية بإلغائها أو تجميدها... في العام الأخير زادت معدلات قضايا جلب الصحفيين إلي ساحات المحاكم, وإنزال عقوبة الحبس عليهم بقصد الردع والتخويف وقصف الأقلام وكبت الحريات, ولعلي أعرف حالات كثيرة لزملاء في مصر والمغرب والسودان واليمن وغيرها, حوكموا ودخلوا السجون, ثم خرجوا أكثر اصرارا علي حرية الصحافة مهما كانت معاناتهم وتلك هي حكمة التحدي, فلكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه *** في المشهد الثاني, يظل الاذلال النفسي والاهانة أشد قسوة من الاذلال البدني والتعذيب والسجن, بل أشد من القتل, لأن القتل مريح, لكن الاذلال يبقي في النفس هاجسا صاخبا ينشد الثأر والانتقام علي الدوام يفزعني أشد الفزع أن يصل الانحدار إلي حد الاعتداء الهمجي المصحوب بتعمد الاهانة والاذلال, علي الصحفيات المصريات صباح الخامس والعشرين من شهر مايو المنصرم, وصولا إلي هتك العرض العلني في الشارع وفق ما جاء في بلاغ نقابة الصحفيين للنائب العام, وهو أمر جلل وتصرف أحمق متدن, وعدوان علي كل مواطن, وطعن في شرف الجميع وبقدر ما أنه لا يمكن لعاقل قبول ذلك, أو تبريره, كما حاول بعض المنافقين, بقدر ما أن المطلوب رد شرف الوطن والمهنة السامية, بعد أن تعرضا معا لانتهاك لا يمكن التسامح فيه فماذا كان الهدف, وماذا كانت النتيجة! الهدف هو كسر نفس أولئك المخالفين في الرأي واذلالهم حتي لا يعودوا لمثلها مرة أخري, بعد أن سبق تجريب محاولات أخف وطأة ضمن الأذلال النفسي, حين تم ضرب بعض الزملاء في الشارع أو خطفهم وتجريدهم من ملابسهم وتركهم عرايا في العراء يعانون الألم النفسي الفظيع! والنتيجة أن الضحايا أصبحوا أكثر قوة وتصميما علي التحدي والمنازلة, فمن كسب ومن خسر؟ من هذه الاساءات التي شاعت في الدنيا عبر الصحف ووكالات الأنباء والاذاعات والفضائيات.. إنها سمعة الوطن التي خسرت كثيرا علي أيدي بعض من يدعون الدفاع عن سمعة الوطن, فهل تذكرون حكاية الدب الذي قتل صاحبه! *** * في المشهد الثالث, تظل حرية الصحافة وضمان أمن وعمل الصحفيين في ظل نظام ديمقراطي وقانون عادل وقضاء مستقل ونزيه, هي القضية المحورية الحاكمة بالأمس واليوم وغدا والي الأبد.. مرة أخري, وليست أخيرة, تصارع الصحافة وينازع الصحفيون, من مغرب العروبة إلي مشرقها, دفاعا عن التحرير والانعتاق من القبضة الحكومية, والهيمنة البيروقراطية التي تقبض الروح من دون الله عز وجل.. وباستثناءات نادرة لا تزال الصحافة أسيرة هذه القبضة الحديدية المهيمنة عبر أشكال ونظم متباينة الأساليب موحدة الأهداف, خصوصا التحكم في الصحافة وأجهزة الاعلام المسموعة والمرئية, سلاحا من أسلحة الحشد والتجنيد والدعاية والسيطرة علي وعي الناس وعقولهم, وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك تفصيلا في كتابنا الأحدث تزييف الوعي.. وأسلحة التضليل الشامل! صحافة مصر ذات التراث العريق والتاريخ الأطول, تتعرض الآن لمتغيرات مهمة, ويخوض صحفيوها معركة ذات أبعاد عميقة, قد تدفع بها إلي مستقبل الحرية, وقد تنتكس بها إلي مزيد من التدهور, والأمر متوقف علي العقلية التي تدير هذه المعركة, وعلي الهدف والأسلوب المبتغي.. ماهو مطروح الآن علي الأقل, مقصور علي تغييرات واسعة في قيادات المؤسسات والصحف القومية العشر, وهي مؤسسات الأهرام والأخبار والجمهورية ودار الهلال وروز اليوسف ودار المعارف والشعب والتعاون ووكالة أنباء الشرق الأوسط والدار القومية للتوزيع, المملوكة للدولة ويمارس عليها مجلس الشوري حق الملكية وفقا للقانون, بعد أن تم تنظيم الصحافة أو تأميمها عام1960, فتحولت من الملكية الخاصة إلي الملكية العامة. والمؤكد أن تغيير القيادات, وبعضها ظل في مواقعه لسنوات طويلة, عمل مفيد وضروري وايجابي, تجديدا للشباب والأفكار والسياسات, لكن التغيير يجب أن يكون للأحسن والأفضل والأكفأ من حيث الاختيار المناسب والكفاءة المهنية والسمعة الطيبة البعيدة عن منظومة الفساد وشلل المفسدين وكتائب المنافقين.. لكن تغيير الأشخاص القيادات ليس وحده هو الحل, بل قد يخلق مشكلة جديدة تضاف إلي تلال المشكلات, إذا جاء نتيجة سياسة التعيين لأصحاب الولاء لهذه الحكومة أو تلك, أو لهذه الشلة, أو لهذا الجهاز أو غيره, إنما المطلوب حقيقة هو تغيير جذري في السياسات والأفكار والرؤي.. أي تغيير نظرة الدولة للصحافة, وعلاقة الصحافة بالسلطة, وعلاقة هذه وتلك بالمجتمع الذي يفترض أنه فوق الجميع ومصدر الشرعية للجميع.. ومن باب التغيير المطلوب عاجلا في السياسات والعلاقة المركبة هذه, تحرير الصحافة ووسائل الاعلام, ذات التأثير الغلاب في صناعة الوعي وتشكيل العقل وقيادة الرأي العام, واستعادة حريتها في ابداء الرأي والتعبير بصراحة عن واقع الناس وهموم المجتمع, ومن ثم ضمان أمن الصحفيين وحمايتهم خلال أداء عملهم, من القوانين الجائرة والعقوبات المشددة, خصوصا عقوبات الحبس وحماية مصادرهم واطلاق حرية الحصول علي المعلومات السليمة من مصادرها الأصلية, تعميقا لمفهوم الحرية وثقافة الديمقراطية المنشودة.. التغيير المطلوب يقتضي سرعة تعديل المنظومة القانونية والترسانة التشريعية, المتراكمة والسائدة منذ عصور الاستعمار العثماني والبريطاني, التي راكمت علي مر العصور والعهود, مئات النصوص القانونية التي تعاقب وتزجر وتحرم وتجرم وتراقب وتصادر وتشدد وتحدد, رغم أن الدستور القائم, وكل الدساتير, تنص صراحة علي حرية الصحافة والرأي والتعبير, ورغم أن الخطاب السياسي والاعلامي الراهن, يحدثنا صباح مساء, عن الاصلاح الديمقراطي والانفتاح السياسي! ثلاثة مشاهد توجع القلب وتوهن الروح, أكثر مما هي واهنة فتزداد الوطأة أكثر, حين تكون بعيدا عن الوطن, فتحتار, أيهما تعالج, وجع الجسد, أم وجع الروح, ثم تسأل نفسك لماذا وقعت أسيرا لحب هذه المهنة التي تغتال الجسد وتنهك الروح.. ويبقي الجواب في الأمل, أو الأمل في الجواب! *** ** خير الكلام: يقول أبوهلال العسكري: لا خير في قوم يذل كرامهم ويعظم فيهم نذلهم ويسود