تعلمنا في الاقتصاد أن أسرع طريقة لإفقار أي شعب هي ببساطة أن تخفض قيمة العملة المحلية أمام العملات الرئيسية الأخرى. تخيل أن تستيقظ صباحًا لتجد أن مدخرات عمرك فقدت 10% من قيمتها على سبيل المثال وأنت نائم أي في غضون ساعات محدودة. وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد ولكن المأساة تتكرر كل صباح فتجد أن مدخراتك بالعملة المحلية تنخفض بشكل شبه يومي. من الطبيعي أنك ستفكر في الهروب من هذه المأساة بتحويل ما تبقى من مدخراتك إلى عملة مثل الدولار للحفاظ على شقاء عمرك وسندك عند العجز وإقبال خريف العمر ولكنك لا تجد أي دولارات في السوق لأن الوحوش الكبيرة تخفيها في جوفها طمعًا في المزيد من الأرباح وهكذا تتبخر مدخراتك إمام عينيك وأنت لا تستطيع عمل أي شيء إلا الدعاء إلى الله. هذا بالضبط ما هو حاصل في مصر هذه الأيام حيث تنخفض قيمة الجنيه المصري بمعدل شبه يومي أمام كل العملات الرئيسية في العالم وهو كابوس مزعج سوف ينعكس بشكل سلبي وخطير على حياة الملايين في مصر في غضون أشهر قليلة باعتبار أن مصر بلد مستورد لنسبة كبيرة من احتياجاته من السلع الغذائية والأدوية والسلع والمعدات الرأسمالية اللازمة لتشغيل المصانع، حيث سيكون مطلوبًا من المواطن المصري المطحون والمحاصر بالمشاكل والظروف المعيشية الصعبة أن يتعايش مع هذه المعادلة الجهنمية المتمثلة في أن يدفع أكثر لتلبية نفس احتياجاته اليومية البسيطة من مدخراته التي تتآكل بشكل شبه يومي بفعل الانهيار المتواصل لقيمة الجنيه. نحن أمام حكومة تتخبط ومحافظ بنك مركزي من بقايا نظام مبارك قرر أن يقدم استقالته والقفز من السفينة قبل أن تغرق بفعل سياساته النقدية الفاشلة منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011 ، فعلى يد المحافظ السيد فاروق العقدة وتحت ناظريه تمت أكبر عملية لنزوح النقد الأجنبي في تاريخ مصر إلى أوروبا والإمارات بشكل خاص أثناء فترة تولي أحمد شفيق "الهارب إلى الإمارات الآن" رئاسة الحكومة المصرية لعدة أشهر بعد نجاح الثورة. وغني عن القول أن هذه البلايين الهاربة هي أحد الأسباب الرئيسية للضعف الذي يعاني منه الجنيه حاليًا. وبالرغم من مطالبنا المتعددة بالتحقيق مع العقدة في كيفية سماحه بخروج هذه الأموال عن طريق الجهاز المصرفي الذي يشرف عليه دون أن يعترض أو حتى يكشف الضغوط التي تعرض لها، قام المجلس العسكري بتجديد تعيينه مرة أخرى! في بداية الثورة كان احتياطي مصر من العملات الأجنبية والذي يديره البنك المركزي يصل إلى حوالى 36 بليون دولار وعند استقالة العقدة منذ أسابيع انخفض هذا الاحتياطي إلى أقل من 15 بليون دولار وكان السبب الدائم الذي يتقدم به العقدة لتبرير هذا الانخفاض السريع والمتوالي هو عدم الاستقرار الذي خلفته الثورة ورغبته في حماية قيمة الجنيه هذا بالرغم من تحذير خبراء صندوق النقد الدولي وكثير من الاقتصاديين المصريين من خطورة استنزاف الاحتياطي بهذا الشكل الخطير لحماية الجنيه بشكل مصطنع وبدون خطة محددة. ولابد هنا أن نقر أن مسألة هبوط الجنيه كانت مسألة حتمية بسبب حالة عدم الاستقرار التي أعقبت الثورة والأموال التي تم تهريبها وضعف مرونة الجهاز الإنتاجي وانخفاض حركة الاستثمارات الأجنبية ومعدلات السياحة بسبب غياب الأمن والاختفاء المتعمد للأجهزة الأمنية الداخلية ومن ثم كان من الأجدى التعامل مع الأسباب الحقيقية للمشكلة دون المساس بالاحتياطي وذلك من خلال توقيع برنامج للمساعدات مع صندوق النقد الدولي لا تقل مدته عن خمس سنوات يتقدم خلالها الصندوق بمساعدات وقروض ميسرة أكبر بكثير من مبلغ الأربعة بلايين دولار التي يتم التفاوض عليها الآن. بحيث يتم في إطار هذا البرنامج السماح للجنيه بالهبوط في حدود معينة تحت السيطرة "بدلًا من الهبوط الحر والحاد الحاصل الآن" لتشجيع حركة الصادرات والإقلال من الواردات، وهذه السياسة من شأنها علاج العجز المزمن في الميزان التجاري المصري ودعم الاحتياطي من النقد الأجنبي. وبالمناسبة فإن هذا بالضبط ما فعلته تركيا منذ حوالى 10 سنوات حيث طلبت من الصندوق برنامجًا لإصلاح ما كانت تعانيه من اختلالات نقدية ومالية وقتها. وحققت تركيا من خلال برنامج الصندوق نجاحًا رائعًا تجني ثماره اليوم ومن ثم فإن الصندوق ليس شريرًا بالسليقة كما يتصور عامة الناس في مصر. وفي المقابل فإن ما تفعله مصر مع الصندوق اليوم لا يزيد على عملية رقعة في ثوب ممزق. وعودة إلى المحافظ المستقيل وآخر إبداعاته قبل أن يستقيل بعدة أيام حيث طبق سياسة عجيبة للسيطرة على ما تبقى من قيمة للجنيه أمام العملات الأخرى تمثلت في قيام البنك المركزي بطرح كميات صغيرة من الدولارات في شكل مزادات تتقدم إليها البنوك لتلبية احتياجات عملائها ولا أدري كيف تصور المحافظ ومساعدوه أن هذه المزادات التي لم أسمع عن مثيل لها في عالم الاقتصاد والبنوك يمكن أن توقف مسيرة الانهيار للجنيه! والحقيقة أن ما حدث منذ تطبيق هذه السياسة خير دليل على الخيبة الكبيرة للحكومة الحالية ومحافظ البنك حيث أدت هذه المزادات إلى اشتعال المضاربات على الدولار والمزيد من الانهيار للجنيه مما دفع المحافظ وبعض مساعديه إلى الاستقالة وخيرًا فعلوا. ومن المضحكات المبكيات في هذا الموضوع أنه فور تطبيق سياسة المزادات هذه اندفعت بعض الصحف إلى التهليل لها دون فهم حتى أن بعضهم قال إن سياسة العقدة هذه لاقت إعجاب العالم وأن كبرى المدارس والجامعات الاقتصادية في العالم بدأت في تدريسها! وعندما استقال العقدة ادعت بعض الأقلام بأنه على خلاف مع الحكومة الحالية وأنه استقال للحفاظ على بطولاته وإنجازاته التاريخية في عالم النقود والبنوك! ونحن هنا نتساءل هل أصبح الهروب من المسئولية نوع من البطولة؟ وأين هي الإنجازات في هذا التاريخ الأسود؟ ثم أين المحاسبة لما يجري من تخريب في اقتصاد مصر؟ وأين الدور الرقابي للمجلس التشريعي الحالي؟ وللحديث بقية بمشيئة الله. [email protected]