أحد المظاهر الأساسية للأزمة السياسية الحالية في مصر أن الأحزاب السياسية عاجزة عن استيعاب حركة الشارع السياسي بكل ما فيها من أشواق للتغيير الجذري. وإذا كانت أحزاب المعارضة تعيد ذلك إلى سنوات طويلة من حصار قاسٍ فرض عليها وحدد اقامتها داخل مقراتها وصحفها، ومنعها من الخروج للهواء الطلق والالتقاء بالجماهير. فإن الحزب الوطني الحاكم اكتفى لسنوات طويلة بأنه حزب الحكومة الذي تسخر له كل امكانات الدولة لكى يستمر في موقعه حزباً حاكماً.ومع سيطرة الجمود على مجمل الحياة السياسية المصرية لسنوات طويلة، كانت أجيال جديدة تخرج بالملايين لتجد نفسها بعيدة عن المشاركة في تقرير مستقبل الوطن، ولتعيش أكثر سنوات عمرها حيوية. وإبداعا وهى محاصرة بجمود سياسي وفراغ ثقافي وظروف اقتصادية صعبة، ثم في النهاية إلى هجمة شرسة تستهدف هويتها من الأساس.وحتى قبل شهور كانت هذه الأوضاع مرشحة للتغيير، وكانت الأحزاب كلها منخرطة في حوار مهم مع حزب الأغلبية، وكان هذا الحوار قد انطلق في ظل ضغوط داخلية وخارجية شديدة، ومع تصاعد الدعوة للإصلاح والتغيير. ومع احساس الجميع بخطورة إبقاء الأمور على ما هي عليه من جمود سيطر على كل شيء.وكان هناك اتفاق على بعض الإصلاحات السياسية التي تتيح للأحزاب القائمة فرصة التحرك الحقيقي، وتفتح الباب أمام قوى سياسية أخرى لإنشاء أحزابها وتعيد تنظيم الانتخابات العامة. ووافقت الأحزاب على تأجيل إصدار القوانين الجديدة إلى ما بعد «الاستفتاء» على رئاسة الجمهوية هذا العام. ثم كانت خطوة الرئيس مبارك بتعديل المادة 76 من الدستور ليكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب الحر المباشر، وبقدر ما فتحت هذه الخطوة من آمال في تغيير أساسي في الحياة السياسية في مصر، فإن بضعة أسابيع من الإدارة السيئة للأمور من جانب بعض أجنحة السلطة أدت إلى المشهد الخطير الذي تواجهه مصر الآن. فقد كان الإصرار بلا أي مبرر على إخراج التعديل الجديد للمادة 76 بالصورة التي جاء بها عاملا أضيف إلى عوامل أخرى أدت إلى مقاطعة أحزاب المعارضة الرئيسية (الوفد التجمع الناصري) للاستفتاء على التعديل الدستوري، وإلى إنهاء الحوار بينها وبين الحزب الوطني، وإلى اشتعال الشارع بعد انضمام الإخوان المسلمين إلى المقاطعة. ثم إلى التجاوزات والانتهاكات التي وقعت يوم الاستفتاء والتي فتحت الباب للعنف والبلطجة التي إذا لم يتم التصدى لها بحسم فإن العواقب ستكون أخطر مما يتصور هؤلاء الذين كانوا وراء هذه الأفعال المشينة عن جهل أكيد بدروس التاريخ التي تقول إن من يستخدم هذا السلاح سيكون أول من يكتوى بناره. والوضع الآن شديد الاحتقان. وإذا كانت السلطة قد بدأت في محاولة للتحايل مع هذه الأوضاع بإصدار القوانين السياسية التي كانت محل اتفاق في الحوار بين الأحزاب، أو بإصدار قوانين لرفع الأجور والمعاشات وتخفيف الأعباء الضريبية، أو بتغيير وشيك في القيادات الصحفية وربما في بعض المسؤولين الحكوميين. فإن هذا كله لا ينفى الحاجة إلى خطوات أخرى تعيد الثقة في جدية عملية الإصلاح، وتعيد جسور الحوار مع كل التيارات السياسية، وتفتح الباب لعبور آمن لعملية التغيير التي مازال الجميع مؤمنا بضرورتها ومتفقا على رفض الإملاءات الخارجية بشأنها.وبديهي أن ذلك كله لا يمكن أن يتم من خلال العقلية التي أدارت «معركة» صياغة التعديل الدستوري للمادة 76. وإنما من خلال عقلية أخرى تدرك أن التغيير قادم لا محالة، وأن القرارات الأساسية في مسار الوطن لا يمكن أن يحكمها موقف الأغلبية والأقلية، وإنما موقف التوافق الوطني الذي يجسد إرادة الوطن بأكمله. إن أمامنا خلال شهور استحقاق انتخابات الرئاسة واستحقاق الانتخابات البرلمانية. فهل يمكن أن نعبر ذلك وسط احتقان يتزايد، وبدون استعادة الثقة المفتقدة بين كل الأطراف الفاعلة في الحياة السياسية، وبدون وقفة حقيقية لاستئصال سرطان العنف والبلطجة ومعاقبة كل من تورط فيه مهما كان موقعه.إن موقف أحزاب المعارضة الرئيسية من انتخابات الرئاسة مازال يتأرجح بين المقاطعة التي ستزيد حتما من حالة الاحتقان السائدة، وبين المشاركة التي ينبغي أن تكون بمرشح واحد يخوض المعركة ببرنامج مشترك (إذا توفرت الضمانات الكافية). ويكون ذلك تمهيدا لمعركة المجلس النيابي التي ينبغي أن تكون هدفا أساسيا للمعارضة واختبارا أخيرا لقدرة النظام على انجاز الإصلاح المطلوب.وقبل يومين صرح الأمين العام للحزب الوطني الحاكم صفوت الشريف بأن انتخابات مجلس الشعب سوف تجرى طبقا للقانون والدستور بالنظام الفردي، ولكنه أضاف أن هذا هو الوضع «حتى الآن». حيث تجري دراسة النظام الانتخابي الأمثل بعد أن طلب الرئيس مبارك دراسة امكانية تطبيق نظام القائمة مع ضمان تحقيق الدستورية لها. لقد سبقت دراسة الموضوع دراسة وافية خلال حوار الأحزاب، واتفقت غالبية هذه الأحزاب على نظام القائمة النسبية، وتحفظ الحزب الوطني. ولكنه ترك الأمر للرئيس مبارك الذي طلب دراسة توفير الضمانات الدستورية لهذا النظام حتى يمكن تطبيقه حيث سبق أن تم الطعن فيه بعدم الدستورية. وقد يقال إن الموقت ضيق وانتخابات مجلس الشعب لم يبق أمامها إلا شهور.. ومازلت لا أرى أي مشكلة فيما اقترحته من تأجيل هذه الانتخابات لبضعة شهور يتم خلالها الانتهاء من وضع النظام الانتخابي الجديد. وتتاح الفرصة للأحزاب السياسية لطرح برامجها وتجديد قياداتها الملائمة للنظام الجديد الذي يتيح الفرصة للأجيال الجديدة وللمرأة في التواجد السياسي، كما يتيحها للأخوة الأقباط لينخرطوا في الحياة السياسية بفاعلية.إن ائتلافا يضم أحزاب المعارضة الرئيسية يستطيع من خلال نظام القائمة النسبية، وفي انتخابات تضمن نزاهتها، أن يحقق نتائج تجعل منه طرفا أساسيا في تقرير مستقبل الوطن. وتجعل من مجلس الشعب برلمانا حقيقيا يمارس وظائفه في المراقبة والمحاسبة والتشريع بدلا من برلمانات أدمنت الموافقة! والأهم من ذلك أنه يستطيع أن يضع التعديل الشامل للدستور من أجل إطلاق الحريات وتحديد السلطات في مقدمة أولوياته، وإن كنت مازلت آمل أن تأتي هذه الخطوة من الآن وأن يصدر قرار الرئيس مبارك على الفور بتشكيل اللجنة الوطنية لتعديل الدستور. لكي تعيد النظر في كل المواد الخاصة باختيار الرئيس والمدة التي يشغل فيها منصبه وسلطاته وعلاقته بباقي السلطات في الدولة.إن مثل هذا القرار يجعل من التعديل الخاص بالمادة 76 مجرد قرار مؤقت للتعامل مع الانتخابات القادمة فقط، ويؤكد للكل أن النظام الذي سيحكم أي انتخابات رئاسية بعد ذلك سيكون مختلفا، وسيراعي كل وجهات النظر، وسيكون نتاج توافق بين الجميع. وسيفتح الباب لتعديلات في كل القوانين الأساسية المتعلقة بالحياة السياسية في الطريق الصحيح وبعيدا عن ترزية القوانين الذين تخصصوا في إفساد كل وعد بتقدم حقيقي على طريق الديموقراطية والحريات.فلنفتح كل الأبواب للتغيير السلمي، لأن البديل خطير، والثمن سيكون فادحاً!. ---- صحيفة البيان الاماراتية في 12 -6 -2005