الوضع السياسى فى مصر أشبه ما يكون بأفران صهر وسبك المعادن، مدخلاته خلاف مخرجاته، الحديد فيه يتحول إلى مجرد برادة هشة بعد أن يفرغوا عليها قطر العمل الجماهيرى الميدانى، فمثلاً أظهرت سبيكة جبهة الإنقاذ غير المتجانسة والتى تم صب مفرداتها داخله على عجل. إن الأيديولوجيات التى تحملها تلك المفردات هى مجرد وسائل للظهور السياسى وليس إيمانا فكريًا ولا فلسفة سياسية، وتعتبر تلك "الخلطبيطة" هى آخر مخرجات فرن الثورة الذى بلغت حرارته مداها الأقصى فصهرت العلمانى على الليبرالى على اليسارى على الفلول، فكان هذا "اليخن" الذى اختلفت مخرجاته تمامًا عن المدخلات يوم أن خلعنا أسوأ ديكتاتور فى التاريخ المصرى الحديث. ولو أنى استمعت إلى الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح يصرح للجزيرة يوم العاشر من فبراير 2011 متحدثا باسم الجماعة، قائلا إن الإخوان قرروا ألا يكون منهم مرشحًا ثم أخذتنى سنة من النوم لمدة عام ونصف واستيقظت لأجد أن الإخوان قدموا مرشحًا رئاسيًا وأن الدكتور أبو الفتوح أيضا هو مرشح ضد مرشح الإخوان لظننت بعقلى الظنون، ولو أن أحدًا قال لى يوم استقالة الجنرال الهارب من رئاسة مجلس الوزراء وخروجه مذءومًا مدحورا باعتباره رمزًا إجراميًا للعهد البائد أنه سيكون مرشحًا للرئاسة يحظى بما يقرب من نصف أصوات الشعب، لقطعت بأن محدثى مجنون، وهنا لن أتحدث عن الثائر ساويرس ولا المجاهد أبو حامد ولا المعارض يحيى الجمل ولا المناضل على السلمى ولا تهانى الجبالى التى كانت مستشارة، فهؤلاء كانوا على هامش السياسة يرتزقون حول الأحداث قبل وبعد الثورة، غير أن الحديث عن البرادعى قبل وبعد الثورة هو بالتأكيد حديث ذو شجون، فالرجل الذى كان واجهة المطالبين بالحكم المدنى يطالب بعد الثورة بشهرين ببقاء المجلس العسكرى فى الحكم ثلاث سنوات حتى تنضج الأحزاب التى لم تولد بعد، ويبتعد عن المشهد شهورًا طويله ويعود ممتشقا سيف الثورة الثانية رافضًا الخيارات الشعبية والديمقراطية التى أنتجت جمعية تأسيسية لكتابة الدستور، ومعلنًا الحرب عليها لأنها لا تتبنى صراحة الاعتراف بالهولوكست ولا تبيح عبادة الأصنام، ويبدو الرجل فى مشهد لا هو بالفلولى ولا هو بالمدنى ولا هو بالمصرى واضعًا يدًا فى يد عمرو موسى وزير حسنى مبارك ومصطفاه ثم أمين جامعة أمراء الخليج وأمين سرهم، ويدًا أخرى فى يد حمدين صباحى الرجل الذى لم تنضج بعد أفكاره السياسية ولم تتسق آراؤه جنبًا إلى جنب ولو حتى فى نسق "القفف والغلقان العمولة" حرفة عائلته فى البرلس الجميلة، غير أن المفاجأة الأكبر فى أفران الثورة خروج التيار السلفى منها متوشحًا بالعمل السياسى ورافعًا راية الديمقراطية، وهو بالتأكيد مخرج مختلف تمامًا عن المدخلات والأساسيات ليخوض معركتين إحداهما دفاعه عن ردائه الجديد ضد من أخذوا عليه تغييره، والمعركة الثانية إيجاد مكان مرموق فى المعترك السياسى رغم نقص التدريب والكوادر ونجح فى بعض من ذلك وفشل فى بعض، حتى شقت حرارة فرن الثورة الحزب شقا بداية من رأسه الذى أنشأ حزب الوطن، ويقال إنه الآن أقرب إلى حزب الأستاذ حازم أبو إسماعيل الذى هو أقرب إلى الإخوان، أما حزب الوسط الذى يعتبر أهم ما ميز قياداته خلال سنوات ما قبل الثورة أنهم "منشقون" على فكر الإخوان وجماعتهم وأضداد لا يمكن استئناسهم فهو يقف اليوم موقفا هو الأبرز والأهم على الساحة السياسية إلى جانب الرئيس مرسى تأييدًا له ودعمًا لشرعيته، وبرز الثلاثى ماضى وسلطان ومحسوب "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه". واليوم وبعد مرور نحو العامين على ثورتنا، احترق خلالها من احترق، وخرج الخبث تلو الخبث، واتحدت معادن غير متجانسة، وانحلت مركبات طالما تماسكت على هون، نقف عند نقطة مفصلية أعتقد أنها ستكون نقطة حرجة فى بناء وهدم وانصهار المكونات الحالية، وتلك هى الانتخابات البرلمانية التى تأتى وقد أصبحت الأحزاب أكثر نضجًا عما كانت عليه يوم أن دخلت الانتخابات البرلمانية السابقة، بينما احترق بالكلية فيه حمدين صباحى والبرادعى وعمرو موسى الذى يظن البعض أنه عجل بحرق هؤلاء بعد أن أعطى إحساسًا فلوليًا عجل بالإساءة للجبهة، ومن يقوم عليها الأمر الذى يوحى بأن قيادات جديدة تتطلع لأن تتبوأ مكانها فى أحزاب الدستور والكرامة على الأقل، كما أن أحزابًا كالمصريين الأحرار قد أصبحت سافرة الوجه، فيما يتعلق بتحزبها الطائفى أو تطلعها للإجهاز على الثورة.. وكانت أحزاب أخرى قد احترقت من قبل كالتجمع وآخرين لا أعرف أسماءهم إلا من خلال فضائيات اعتادت على استضافتهم. ولا يخلو الفرن العالى للثورة من صهر للأفكار الإخوانية أنتجت على مدى العامين صقورا وحمائم، كما أنها أعادت للإخوان إحساس الحاجة للمواجهات الميدانية بعد أن أطلق "متظاهرو الاتحادية" النار على عشرة منهم فاستشهدوا، بينما يتلقى العلاج ما يزيد على الألف، كثير منهم عاهاتهم مستديمة، وبعد الحرق وبعد الضرب أصبحت حاجة الإخوان إلى الحماية أكبر مع تقاعس الداخلية، بل واشتراك بعض عناصرها فى إحراق المقرات وهى معادلة جديدة فى فكر الثورة عندما تواجه قواها شخوصًا هم بكل تأكيد يحملون الجنسية المصرية.