كل الذين تناولوا التغييرات الصحفية الجديدة بالتعليق فعلوا مثل ما فعل أصحاب "قرية العقلاء" التي كان أهلها يعانون من حفرة كبيرة في مكان ما قرب الطريق الرئيسية التي يمر بها كل أهالي القرية صباحاً ومساءً، ولم يكن يمر يوم من دون أن يسمع أهل القرية صوت استغاثة من أحد المارة، وعندما يهرعون ناحية الصوت يجدون أن شخصاً قد وقع في الحفرة، ولما اجتمع أهالي القرية لدراسة المشكلة والبحث عن حل اتفقوا على أنهم أمام ثلاثة خيارات لا رابع لها: إما أن يبتاعوا سيارة إسعاف ويضعوها بجانب الحفرة تسهيلا لسرعة نقل المصابين إلى المستشفى الواقعة عند أطراف القرية، أو أن يبنوا مستشفى بجانب الحفرة، أو أن يدفنوا الحفرة ويحفروا واحدة أخرى بدلاً منها بجانب المستشفى.! رصد المعلقون على التغييرات الصحفية الأخيرة أن لجنة السياسات بالحزب الوطني كسبت نصيب الأسد في ترشيحات رؤساء التحرير، وقالوا أن الأسماء التي استقر الأمر عليها هم إما من التابعين لها أومن المحسوبين عليها داخل الحزب الوطني، واستنتجوا أن جمال مبارك فاز من جديد في فرض الأسماء التي يريدها في مواجهة ترشيحات تبنتها فرقة عواجيز الحزب ودهاقنته من أمثال صفوت الشريف أو كمال الشاذلي وفتحي سرور! تحدث الجميع عن كيف جاءت الحفرة إلى هنا، ولم يستغرب أحد من هؤلاء أن الذين رشحوا - سواء من لجنة السياسات أو من أمانة الحزب - وأن الذين رشحوا من الأطراف: كلهم من أعضاء الحزب الوطني! المُرَشَحون(بالفتح) من الحزب الوطني والمُرَشِحون(بالكسر) من الحزب الحاكم، ما يعني أن حزب الرئيس يتعامل مع المؤسسات الصحفية القومية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من أملاك السيادة التي يحق له بموجب ملكيته لها أن يمنع أي غريب من الدخول إليها أو الاقتراب منها أو التصوير! والبادي من التعليقات التي تناولت هذه التغييرات الصحفية أن أحدا لم يستغرب أن يجري التعامل مع المؤسسات القومية باعتبارها جرائد ومجلات تابعة للحزب الوطني، له وحده حق النظر في شئونها، التي تعتبر من الشئون الداخلية لحزب الحكومة، من دون أي اعتراض من أي من المعارضة! وكما أن الحزب الوطني ما يزال يتعامل مع الدولة بكافة أجهزتها ومؤسساتها العامة والقومية باعتبارها توابع للحزب، يبدو أن المعارضة بدورها لم تستوعب التغيير الذي جاء مع تعديل المادة 76 من الدستور، وهو التغيير الذي يفترض ولو نظريا انه فتح المجال لانتخاب رئيس الجمهورية، وهو التطور الذي يوجب على المعارضة وعلى الحكومة على السواء أن تعيد حساباتها على أساسه! كنت أتوقع أن تقوم الدنيا ولا تقعد هذه المرة من أجل أن تكون الأخيرة التي يحق للحزب الوطني الانفراد بترشيح أسماء رؤساء مجالس إدارات وتحرير الصحف والمجلات، فضلا عن تعيينها، فالصحافة مثلها مثل المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن يجب أن تخرج من عباءة أي حزب، بل وان تبتعد عن أن تكون مسيسة بأي صورة من الصور! إذا كنا جادين في التوجه إلى بناء الديموقراطية في بلادنا فأول الطريق يبدأ من فك الارتباط بين الحزب الحاكم - سواء كان الوطني أو غيره من الأحزاب- وبين أجهزة الأمن والمؤسسات العسكرية والإعلامية، وأن يكون للحزب الحاكم - كما للأحزاب الأخرى- صحفه وقناته التلفزيونية وسائر وسائل الإعلام الخاصة به وبكل حزب، ولكن المطلوب من الآن أن يرفع الحزب الوطني يده عن أجهزة الدولة، وكل مؤسسة لها صفة القومية، هذا إذا كان المطلوب أن نردم الحفرة لا أن نحفر واحدة بدلاً منها بجوار المستشفى! [email protected]