(1)" الحياة في القرية ثرية ، اعتقد أنها أكثر ثراء من المدينة ، والطفولة رائعة وغير مدجنة تختلف كثيرا عما تفعله الجدران الإسمنتية والعمارات الشاهقة ." كانت قريتنا الصغيرة هي ميلاد الكون بأعيننا ، القرية كانت بكر سبخة أتى الإصلاح الزراعي ليعالجها ، اجتمع القوم وائتلفوا ،إلا أن كانت هناك وقفات منا نحن الصغار بالستينات ممن يعبرون إلى القرية.كنا في سن الرابعة والخامسة نقف عند الترعة وثمة جدل يثار ، من له القدرة على عبور هذه الترعة الشاسعة مرة واحدة ؟ وتتفتق قرائحنا الصغار. يقول الأول : انه جمال عبد الناصر ..!! وقال الثاني : انه أبي ، ويقول الأخير .انه العفريت.. وينتهي الاستفتاء الكلامي بعد أن يدلي كل طفل بدلوه ويقدح زناد قريحته عما يدور في البنية العقلية الصغيرة وينتهي إليه خياله البريء. ولابد أن تترك المرحلة بآثارها على العقول . كان على الجهة الأخرى من القنال ، من يقولون أنهم الجيش الذي لا يقهر ، فجاء رجال في السبعينات ممن يأخذون السيف بحقه أولئك الذين عبروا إلى الجانب الآخر بروعة المصريين ،،مثل عبد الغني الجمسي ..ليقول اليهود انه الرجل المخيف ،، كانوا يتحاشون النظر إلى وجهه في مفاوضات الكيلو 101.. لأنهم لا يستطيعون إزاءها إلا الرضوخ .. **** (2) تقع قريتنا في ارض محايدة أو ارض منزوعة السلاح بين الدقهلية ودمياط ..وبقي التنازع الإقليمي بين المحافظتين قائم إلى أي محافظة ستنضم .. لينتهي منذ سنه تقريبا..إلى أن تم اقتسامها بين كلا المحافظين . الجهة الشرقية تبعا للدقهلية، والجهة الغربية تبعا لدمياط ، وصار لكل جزء من القرية اسما مستقلا. القرية كانت جميلة بالستينات إلا أنها اليوم ليست كذلك ،.معالم القرية البارزة مركز حكومي لبحوث الأسماك ومركز حكومي آخر للبحوث الزراعية . وطلمبات رفع مياه إلى بحيرة المنزلة التي كانت أعلى في منسوب المياه من منسوب القرية . وكان هناك جنود درك لحراسة هذه الطلمبات . **** (3)في احد أيام الستينات كان يأتي بدوي إلى القرية ذو لحية بيضاء تختلف لهجته عن لهجة القرية كأنها تجنح إلى محافظة الشرقية أو البدو .، مسكين ،يبيع الأشياء البسيطة مثل ابر الخياطة وإبر وابور الكاز السائدة الاستعمال في مصر في تلك الفترة ، كانت تجارة الرجل كاسدة وليس من يلقي لها بالا اللهم في المناطق النائية بالقرية التي ليس بها دكاكين بقالة . كان لديه علبه من الصفيح بها أشياءه البسيطة .لا نعرف ما بها من أشياء ..اللهم إلا ما تقتضيه نوعية تجارته . كان يعيش على هامش الأحداث كغريب عابر. وفي قيلولة احد الأيام ، وليس من يسير في دروب القرية إلا كلب يلهث . أو عائد من عمله . الشمس تحرق شوارع القرية .. وروائح متنوعة تفيد أن هناك طعام مازال على بوابير الكاز ، تلك البوابير ذات الضجيح والأنس الذي يعزلك عن العالم الخارجي ..ورائحة بقايا قش الشوارع الجاف المختلط برائحة السباخ . وصوت المذياع بصوت أم كلثوم وشعر نزار قباني " أصبح عندي الآن بندقية إلى فلسطين خذوني معكم " (عشرون) عاما ابحث عن وطن وعن قضية" **** (4) نسمع جلبة في دروب القرية فنهب من البيوت واجتمع أهل القرية خلف هذا البدوي ذا يركله وذا يلكمه وذا يأتي من الخلف ويصفعه . إذ ثمة أشاعه أن سمعه احد شباب القرية " يقول آلو يا إسرائيل " أي يهاتفها ، بمعنى انه جاسوس ،ونحن بالطريق المارة إلى جنود الدرك الذي يحرسون الطلمبات فهم المسئولون عن الأمن الحربي بالقرية أثناءها . كانت النساء يقفن عن البيوت المصطفة في طريق الهويس .وعندما يسمعون انه جاسوس وآلات التجسس أكيد في علبة الصفيح التي في حوزته . فيدعون للشباب ربنا يحميكم لمصر . والأخرى .. تحث الشباب أن يكونوا يقظين للبلد . وعندما ذهبوا به إلى هناك وجردوه من ثيابه لم يجدوا معه شيئا في علبة الصفيح الصغيرة اللهم إلا علبة ثقاب ماركة" الهلب" الشهير بالستينات وكذا ابر خياطة وثلاثة قطع من الحصى ومسبحة، وقروش قليلة فيبدو أن جنود الدرك رثوا لحاله وأطلقوه ..بعد التأكد من براءته .عاد الرجل حزينا كاسف البال اذ انها لم تكن إلا إشاعة أصدرتها هواجس القوم تحت ضغط الواقع العدائي لإسرائيل . فكل بيت في القرية قد استشهد منه شاب . ويستفسر احدهم كيف لم يجدوا شيئا ؟!لابد انه أخفاها !! فيرد عليه لقد جردوه ..عاد الرجل ُمكسّرا ، ُمبهدلا ، وثيابه لم تكن في هندامها المعهود و لم تكن عمامته مكانها ،لكنه عاري الرأس .كنقاء صفحته وحال براءته .يومها لم يرد له القرية اعتباره كونه ُكسر وُظلم وُاهين . ولم أره في القرية بعد ذلك . ممكن أن نصنف الموقف في الوطنية المفرطة . والعداء المفرط لإسرائيل .ترى لو كان البدوي حيا يرزق في هذه الأيام ..فماذا يقول ؟ اليوم أغنية " إلى فلسطين خذوني معكم" ..لم تعد تذاع .. وُغيّب عن ذاكرة الأجيال ثقافة المقاومة .. وأصبحوا يرفعون في وجه إسرائيل الورود والزنابق بدلا من الحراب والبنادق .. وما زلنا بعد (ستين) عاما.. نبحث عن وطن وعن قضية .!! ***** (5) كان يأتي الغجر الغرباء إلى القرية ممن يعيدون طرق وتشكيل القدور وأواني الألمونيوم والنحاس لأهل القرية فتعود وكأنها جديدة ومن ثم يقترب . احدنا نحن الأطفال الأكثر جرأة . قائلا بصوت جهوري : أعطي له منشار يطلع نار يا استعمار . والى الآن لم اعرف الآصرة التي تجمع بين المنشار و النار والاستعمار اللهم إلا القافية. وشعارات تلك المرحلة في الإعلام ، كان الغجري ينظر إليه صامتا ولا يرد ..كان يحمل حزن الغرباء وضعف الفقراء، وظلت تلك النظرة الصامتة لذلك الغجري طلسما ولغزا لي.. لم اعرف معناها إلا بعد أن اغتربنا .وجعلتنا الظروف أن نصمت هذا الصمت ونمضغ اهانات السفهاء . **** (6)كان يأتي إلى القرية أعرابيات يركبن المطايا ويلبسن النقاب البدوي المطرز بالجنيهات الذهبية والمطرز بالخيوط الزاهية الألوان وما أن يراهم الفريق من الأقران .. حتى يصيحون فيهن بصوت جهوري كأنه نشيد قومي: شيخة العرب ....كان اليوم ممطرا . ولم يمنعنا مؤقتا من النشيد القومي إلا( أم حسن) امرأة مسنة تكره الأطفال ، كعادة معظم المسنين حينما يضيق خلقهم بضجيج الصغار، جاءت تنهرنا ..قائلة هل الدنيا (بتشتي ) عيال ، أي هل تمطر الدنيا أطفالا ؟!.. امشي يا ولد أنت هو العبوا عند بيوتكم .. لم نعبأ بها ، ولكن عندما رجعت إلى أمي و رويت لها الرواية غير مكتملة التفاصيل عن ام حسن ..قبلتني في حنو وقالت الله اكبر من عينيها ، كانت الأعرابية يحمر وجنتاها خجلا.. من خلف النقاب فهي لا تعرف كيف تعالج الموقف وما هو إلا الحظ التعس حيث ألقت بها الأقدار الى شوارع قريتنا و إلى مثل هؤلاء الصغار الذين لا يستحون . كنا نحس بالأمان وان هذه أرضك ، تمارس الحريه في مياهك الإقليمية ، ولا خوف ولا اعتبارات ما لأحد اللهم إلا الآباء وتمرح في مساحة ممنوحة لك من الحرية .. لم اسمع يومها الأعرابية من خلف النقاب..ذلك النقاب الذي وقف عنده ذي الرمة يوما ليقول : تمام الحج أن تقف المطايا على خرقاء نازعة اللثام **** (7) بالرغم أن مصر قد خرجت جريحة في 67 إلا انه لم يكن هناك مجاعة. اذكر انه كان ثمة مصطلح دارج لدى اهل القرية اسمه " ليلة لأهل الله " وهو عمل من أعمال البر يقوم به ذوي القدرة المالية أو المتوسطة الحال لإطعام فقراء القرية. اذكر كيف قام والدي بذبح كم هائل من الطيور الداجنة والحمام وقدور كبيرة وقد أتى أقاربنا من أطراف القرية ليساهموا على أعمال الطهي ومنح الطعام إلى الفقراء . ***** (8) مولد الصواني، وهو أن ينصب صاحب الفراشة بالقرية صّوانا كبيرا اعتقد انه غير مدفوع الأجر يندرج تحت اعمال البر. ويخرج من كل بيت من القرية صينية كبيرة عليها ما لذ وطاب كنت تسير في القرية تشم رائحة الطعام الشهي .. أي أن أهل القرية باختلاف الدرجات ميسوري والطعام متوفر بلا شك ، رائحة الطعام كما قال ت س اليوت الإنسان كوكتيل حضارات . فتشم الأكل المسّبك من العصر الإسلامي وطشة الملوخية من عصر الفاطمي مع أنواع البهار الضاربة في القدم من عصر الفراعنة . تخرج صبايا القرية كل منها تحمل صينية وعلى الصينية غطاء نظيف من قماش . وما أن تهبط الصينية بأمان على ارض الصوان . حتى تتناوش لحوم دواجن الصينية اكف الجياع ويدعون لها..تبتسم الصبية وتمضي متعثرة خجلا . كانت المأكولات باستثناء الطيور لا يهتم بها الفقراء.. كان من الممكن أن تتعرف على البيت الممتاز طهيا من خلال الصينية .. حيث يتبارى أبداع صبايا القرية في الطبخ .. **** (9) موكب الخلافة، إن حياة الطفل في القرية ، قريبة دوما من غمرة الأحداث وينفعل معها ، انه موكب الخلافة الذي يجوب القرية ، حينما يمر الموكب وبه صفان متقابلان يدقون الطبول ، وهناك الأعلام العالية الكبيرة ، مادة قماش العلم من الساتان الاخضر ، كانت الأعلام بالغة النظافة جديدة ، كأنها لتوها خرجت من المصنع كانت ترمق عيوننا نحن الأطفال تلك الأعلام فكانت تبدو لنا شاهقة تعانق السماء ونحن نسير في الموكب ، مكتوب عليها باللون الابيض الله محمد ، ابو بكر عمر عثمان علي . والحسن والحسين ، كانت رائعة وتترك في نفسك البسيطة روعة المجد ، وتنتشي زهوا ، وسعادة غامرة .. كان "ابو جبل " يتقدم الموكب وينتضي سيفا ، تمنيت لنفسي يومها سيفا كذلك السيف . وتتصدر الركب .. انها هاجس السيوف والبيارق لدى الادباء والشعراء المتخلفين عن الركب والذين ما زالوا في إسار روعة الماضي. . كما قال البارودي : سل عني المجد ولا تحتشم فالمجد يعرف أي سيف قد نضى .تتمنى ان لا ينتهي الموكب ، حيث ان كل مستلزمات البهجة للطفل متواجدة ، من ضجيج الطبول . وشاهقة الاعلام .. وانتضاء السيوف ، والأسماء المضيئة المكتوبة على الأعلام تحفر في سجل الذاكرة وحنايا الذات . كنت أتمنى أن ارفع واحدا من هذه الأعلام في يوم مجد ليعانق السماء ، او اشترك مع من يدقون طبول الحرب ، او طبول النصر . لا يمكن لابن المدينة أن يستشعر المعالجة الذهنية والاثر النفسي على طفل سار في موكب من مواكب المجد يوما، كما كان يخّيل الينا خيالنا البريء يوم ذاك . (10)كان هناك صندل للنقل في أطراف القرية ناحية الأسماك ، كانت تستغرب طفولتي كيف للحديد أن يطفو على الماء ، لم أكن أدرى أن ثمة فراغ أو تجويف , فمعالجة الأمور لدى الأطفال بظواهرها وليس ببواطنها، هناك النقل على الصندل ما بين ترعة وأخرى ممتع وسار وكانت الأمهات يجذبن أبناءهن إلى جوارهن طيلة الرحلة البسيطة خشية السقوط ،وعلى الصندل ممكن أن ترى حمار أو خراف ودواب وبعض البشر العابرين وترى هناك اجولة ارز وأحمال برسيم .. على الصندل كل شيء قابل للنقل مقابل اجر زهيد .. وكان الرجل يمتلك القناعة باليسير وان لم يكن معك ، تجاوز عن الأجرة بروح من السماحة . أن تكون أنت والدواب على صندل للعبور إلى وجهة واحدة طبيعي ولا تأنف من ذلك .. يذكرك بما جاء في التلمود حين أعلن الله تعالى نزول ادم إلى ارض الشوك والحسك ، انهمرت الدموع الحارة من عيني ادم ، وصاح: يا سيد العالم ، هل يتحتم علي أن آكل أنا والحمار من مزود واحد ) ولكن حين أضاف الرب (ستأكل خبزك بعرق وجهك ) عند ذلك هدأ آدم .. أنت والدواب على الصندل العابر يذكرني بقول فولتير في رسالة كتبها الى شومبرغ في 31 اغسطس 1769 الحيوانات تتفوق بهذه المزايا عن الإنسان : إنهم لا يسمعون دقات الساعة ، إنهم يموتون دون أي فكرة عن الموت ، إنهم ليس لديهم علماء دين كي يلقنوهم ، لحظاتهم الأخيرة، لا تضطرب بمراسيم غير مرغوب فيها ،و غير سارة ، وجنازاتهم لا تكلف شيئا . Animals have these advantages over man: they never hear the clock strike, they die without any idea of death, they have no theologians to instruct them, their last moments are not disturbed by unwelcome and unpleasant ceremonies, and their funerals cost them nothing.~Voltaire, letter to Count Schomberg, 31 August 1769 **** (11) في فترة الستينات كان هناك صحافيين وكتاب وشعراء كبار كان الصحفي الكبير جليل البنداري ، ، كان هناك صلاح جاهين وكان هناك يوسف السباعي وكان هناك الشاعر البدين المرهف كامل الشناوي وكان هناك كبار المفكرين والكتاب الإسلاميين مثل سيد قطب وأخيه محمد قطب وكان ومازال علي جريشة و احمد رائف وصافيناز كاظم وجابر رزق وعبد القادر عودة ، رواد المرحلة إسلاميا، قرأنا لهم وتعلمنا منهم الكثير بقدر ما شاب المرحلة من مأساة ،أطال الله في أعمارهم اجل مرحلة ثرية من الصعب أن تتكرر تلك النماذج بهذا التنوع والكم ،وأيضا الدرجة في الإبداع- في زمن واحد . (12) أخر الكلام : أروع شيء في الوجود أن هناك إله عظيم لهذا العالم ، يدبر الأمر بحكمه وعدله وجبروته ورحمته ، ساعتها لا تستشعر الألم والحزن . وكن مطمئن الضمير ، أن لك رب . ولك إله وهو الله تعالى – سما مقامه - حرّم الظلم على نفسه وجعله محرّما بين العباد، الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (النساء : 40 )