قبل أيام صدر عن أحد السياسيين خارج الحكم في دولة عربية، تصريح يستنكر فيه غياب الديمقراطية في بلده، بينما هو كان يبارك غيابها وهو في الحكم، فلم يصدر عنه موقف أو تصرف أو قول، ينبئ عن إيمانه بالديمقراطية فعلاً وسلوكاً. وقبل سنوات كان لأحد الرؤساء العرب السابقين حديث يشرح فيه كيف ان الديمقراطية هي الضمان والحماية للوطن من أي أخطاء وأخطار. أي انه استخلص العبرة واسترد الوعي، لكن بعد فوات الأوان، وحيث لا سلطة في يده ولا قرار. واعتدنا ان نرى انقلاب المواقف لدى شخصيات عربية متعددة، فهي وهي تشغل مناصبها المهمة، داعمة لأنظمة الحكم الفردي، ولقمع أي صوت معارض، ثم حين يتحول الواحد منهم الى مواطن يتساوى ببقية المواطنين، يعلو صوته منادياً بالديمقراطية، مستنكراً غيابها. وتتكامل صور هذه الظاهرة بمشاهد عديدة تضفي عليها خطوطاً ورتوشاً، تزيدها وضوحاً وتزيدنا فهما لها، كان أشدها إثارة ما جرى قبل أكثر من عشر سنوات جاء رئيس عربي لزيارتنا في “الأهرام”، والتقى مع مجموعة من كتابه كنت أحدهم وعندما وجه اليه سؤال مضمونه ان الديمقراطية اصبحت شرعية أي نظام حكم في هذا الزمن. عندئذ أومأ برأسه الى مستشاره الجالس معنا على مائدة الحوار، ليرد على السائل، وكانت خلاصة كلام مستشاره، ان هذه الشعوب أمامها مائة سنة، حتى تكون قد تهيأت لحكم ديمقراطي. *** الرأي واضح.. ولهجة التعالي والترفع من فوق المقعد، محاطاً بأبهة السلطة، وقصائد المنافقين المخربين للمنطق، والمفسدين للعقل السليم، هي لهجة شديدة الوضوح. وهي حين تتسلط على الحكم تجعله يتصور ان من نحكمه هو شعب لم ينضج بعد، ولم يبلغ مرحلة المشاركة السياسية، والتعبير عن رأي يؤخذ ويعتد به. من ثم يأتي اختيار المعاونين والمنفذين، وفق مقاييس شخصية، تخلو من مقاييس الصلاحية والصدق والقدرة، والنزاهة في تغليبه الصالح العام على الصالح الشخصي. *** ثم إن السياسية أيضاً - كما عرفها علم السياسة - هي نشاط من أهم وظائفه القدرة على الخيال وابتكار أفكار وطرق ووسائل التعامل مع ما يتغير. وهنا تتقطع الصلة بين السياسة كنشاط، وبين ما يجري في الواقع، في حالة تضيق دائرة المشاركة في القرار، عندما تعجز المجموعة المختارة بالمواصفات الشخصية عن أن تلعب هذا الدور. أقول هذا عن عالم تغير فيه كل شيء، وانقلب كل ما فيه، ولم يعد فيه شيء على حاله، وصارت النظرة التقليدية للأمور عاجزة عن التعامل مع ما يجري، حتى أن المختصين بالعلوم السياسية في اللحظة الراهنة على وشك الاتفاق على عدد من العناصر استقروا عليها ويرون أنها الشهادة على أن نظام ما يملك الحدود الدنيا من عوامل ممارسة النشاط السياسي، ومنها: - استيعاب الأبعاد الحقيقية لما جرى في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من تحولات عالمية، فيما يغير من مفاهيم الأمن القومي، والقدرة الاقتصادية، وتنمية البشر، وشريحة الحكم، ودراستها بشكل شامل ومتعمق، لرسم التوقعات بما هو قادم في المستقبل. - القدرة على الخيال والإبداع في خلق سياسات تهز الكيانات المتحجرة في الدولة هزاً عنيفاً، وتهدم ما هو آيل للسقوط، لتقيم مكانه معماراً ينهض بالدولة علماً وتعليمياً وثقافة وبحثاً علمياً واقتصاداً وإدارة وفنوناً. هذه كلها تغيرات دخلت على الفكر والنشاط السياسي في الدولة في السنوات القليلة الماضية، مع بقاء الثوابت التي تمثل الأسس التقليدية للدولة، والتي من دونها يصبح ما هو موجود ليس بدولة، وإنما كيان ألحقه الحاكم بما يخصه وما يملكه، وبالتالي فهو تلقائياً يلغي دور الطرف الثاني في العلاقة بين حاكم ومحكوم، وينفرد هو بكل الأدوار، وتنقطع تماماً الصلة بين النشاط السياسي وبين ما يمارس فعلاً من نشاط. *** هذا النمط من الحكم كان قادراً على البقاء في عصر الصراع بين القوتين العظميين، الذي كانت تحكمه قواعد تدفع كلا القوتين إلى بقاء وحماية هذه الأنظمة، لحسابات الصراع وتوسيع مناطق النفوذ، لكن الوضع اختلف منذ عام 1989 ونهاية الحرب الباردة، وسقوط الأنظمة الشمولية، وبدء تحول مواقف الشعوب تجاه أنظمة الحكم غير الديمقراطية. ثم ما تلا ذلك من انقلاب السياسة الخارجية الأمريكية، التي بدأت تفلسف الأوضاع في العالم العربي، وغياب الديمقراطية فيها، على أنها منبت مصادر التهديد للأمن القومي للولايات المتحدة، وتصديرها إليهم. وهذا ما يجعل هذا الصنف من الأنظمة محاصراً بين حسابات مصالح القومية الخارجية، وبين شرعية مطالب شعوبها في الداخل. أي أنها الآن تحت ضغوط جبهتين معاً. --- صحيفة الاهرام المصرية في 13 -7 -2005