كونداليزا رايس مواطنة امريكية سمراء، اتاها الله جسما نحيفا.. ولسانا طويلا.. وجرأة نادرة علي الحكام العرب! تقول لهم قفوا.. فيقفون! وتقول لهم ناموا.. فينامون! تقول لهم لا تقمعوا المظاهرات بالقوة.. فتختفي علي الفور قوات الامن المركزي من شوارع القاهرة! ونري بأم اعيننا ما لاعين رأت.. ونسمع باذاننا مالا اذن سمعت! فبعد الزيارة الاخيرة التي قامت بها هذه السيدة الامريكية السمراء طويلة اللسان الي مصر.. وبعدما اعلنته في مؤتمراتها الصحافية ولقاءاتها في الجامعة الامريكية في القاهرة.. وكلها تندد بسياسة القمع التي تمارسها قوات وزارة الداخلية المصرية ضد المتظاهرين من المواطنين المصريين، خرجت في مصر المحروسة تظاهرة صاخبة لا تحمل فقط لافتات تقول كفاية ! او لا للتجديد لمبارك! او لا للوريث! بل كان المتظاهرون يهتفون باللغة العربية الفصحي: يسقط مبارك! وذلك امام سمع وبصر مراسلي الصحف ووكالات الانباء العالمية! وامام عدسات القنوات الفضائية! ولم يتقدم ضابط ولا جندي نحو هؤلاء المتظاهرين لانزال الهراوات علي رؤوسهم وظهورهم وشد ملابسهم وهتك اعراضهم والقبض عليهم والزج بهم في اقسام الشرطة وتعذيبهم كما حدث قبل ذلك بايام قلائل واثناء مظاهرات اقل حدة لم نسمع خلالها هتافا واحدا ينادي بسقوط مبارك! ولكنها اي المظاهرات تمت قبل الزيارة الميمونة للسيدة كونداليزا رايس! فكيف تم هذا التحول الكبير في تصرفات النظام واجهزة النظام؟! بالطبع لا يمكن لاحد ان يصدق ان النظام في مصر قد اصبح فجأة نظاما حرا وديمقراطيا كما في امريكا وبريطانيا يسمح للناس ان تهتف بسقوط الحاكم دون ان تسقط علي رؤوسهم الهراوات والقنابل! ولا يصدق احد ايضا ان مجلس الحزب الوطني الذي يسمونه مجلس الشعب هو الذي اصدر فجأة قانونا يحظر علي الشرطة الاعتداء علي المتظاهرين. وذلك بعد ان شاهد اعضاؤه جريمة هتك عرض احدي الصحافيات من قبل جنود الامن المركزي! وبعد ان شاهد قسوة رجال الامن المركزي مع المتظاهرين من الطلبة او من رجال الازهر. او من الاخوان المسلمين والمسيحيين! ولا يصدق احد ايضا ان ذلك قد تم بمبادرة تاريخية من سيادة الرئيس تشبه مبادرة تعديل المادة 76 من الدستور بعد ان تم توبيخ وزير الداخلية ولومه لانه سمح لقواته بضرب المتظاهرين وهتك اعراضهم! اذ لم يحدث في التاريخ العربي كله ان سمح حاكم عربي لرعاياه ان تهتف بسقوطه دون ان يقطع السنتهم ورقابهم! الفضل كله اذن يعود الي تلك السيدة الامريكية النحيفة السمراء طويلة اللسان! فما ان انتقدت هي ورئيسها تجاوزات الشرطة واستخدامها المفرط للقوة في قمع المظاهرات السلمية.. حتي بادر النظام بالاستماع الي النصائح القادمة من واشنطن وتنفيذها دون ابطاء! قد نجد من بيننا الكثير، نحن المواطنين العرب، ممن يخشون بطش الحكام العرب علي انفسهم وعلي اهليهم.. ولكن هذه السيدة النحيفة السمراء لا تخشي الحكام العرب! بل ان الحكام العرب هم الذين يخشونها! اتدرون لماذا؟! لانها تحمل في حقيبة يدها دائما شريط فيديو صغير يصور احد الحكام العرب.. وقد وضعته امريكا في حفرة وتركت شعر رأسه وذقنه ينمو بكثافة حتي بدا ذلك الحاكم العربي اشعث اغبر! ثم احضرت من يفتش في شعر رأسه عن القمل! ويبحث في اسنانه عن السوس! وصورت كل ذلك في هذا الشريط الذي تحمله دائما معها.. وهو الشريط الذي ما ان شاهده الحكام العرب حتي علموا ان ذلك سيكون مصير كل منهم اذا لم يسمعوا ويطيعوا! فقالوا سمعنا واطعنا! ولو ان ذلك الحاكم العربي قد اقسم بالطاعة لامريكا لتركته يحكم العراق مدي الحياة! وتعالت للاكراد طز .. وللشيعة طزين لو اطاع ذلك الحاكم امريكا لما كانت في العراق اسلحة دمار شامل! ولما اصدر مجلس الامن الدولي اية قرارات تمس العراق وسيادته الوطنية! ولما كانت في مجلس التعاون الخليجي دولة اسمها الكويت! ولكن شاء حظ ذلك الرئيس العربي ان يقول لا لامريكا.. فكانت تلك الحفرة.. وكان ذلك الشريط! هي تحمل هذا الشريط اذن للذكري. وللتذكير.. فالذكري تنفع الحاكمين اذا كانوا عربا واذا جاءت من امريكا! والدليل علي ذلك ما حصل من التطورات في المنطقة العربية عقب زيارتها الاخيرة! ونذكر هنا ثلاثة احداث لفتت نظرنا كما لفتت نظر غيرنا من المراقبين. الاول توقيع اتفاقية تزويد الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين بالغاز المصري! الثاني هو التهجم العلني للسيدة الامريكية السمراء علي الحكومة السعودية في عقر دارها! اما الثالث فهو مؤتمر الاديان الذي انعقد في قطر بحضور حاخامات يهود قدموا من الارض المحتلة! فقد استطاعت تلك السيدة النحيفة السمراء طويلة اللسان ان تحول الرئيس المصري الذي لم يتردد وهو ووزير داخليته وقوات امنه المركزي من ضرب المتظاهرين المصريين وسجنهم وهتك اعراضهم.. استطاعت تلك السيدة ان تحوله الي رجل رقيق القلب وحنون لا يستطيع ان يتحمل رؤية اسرائيلي او اسرائيلية ترتعد من البرد في الشتاء! فذلك حرام! وهو ايضا ضيم تأباه العرب! السنا نحن اباة الضيم؟! نغيث الملهوف ونعيش علي نوائب الزمان! دون ان نجد من يعيننا علي نوائب الامريكان! فكيف نترك اليهود المساكين دون تدفئة؟! فقرر سيادته ان يزود بني اسرائيل جميعا بالغاز المصري. ولمدة خمسة عشر عاما! اي ان مدي حرص سيادته واهتمامه بدفء بين اسرائيل ورفاهيتهم يتجاوز حتي ما قد يكون تبقي من عمره المديد! بل لان الاعمار بيد الله وقد يمتد به العمر الي ما وراء ذلك فانه ربما يفكر منذ الان في ان يجدد هذا العقد للاسرائيليين بعد اعادة انتخابه لفترة تاريخية عاشرة عام 2020! ولن يلومه احد حينئذ لانه يكون قد بلغ ارذل العمر.. ولا يعلم من بعد علم شيئا! اي انه لن يعلم في ذلك الوقت كما يعلم اليوم ان الاسرائيليين الذين يمدهم بالغاز المصري لزوم التدفئة والرفاهية.. هم انفسهم المغتصبون والمحتلون والقتلة الذين احتلوا فلسطين العربية وشردوا اهلها وقتلوهم ولا يزالون يقتلونهم كل يوم! وانهم هم الذين دمروا مدرسة بحر البقر المصرية! وهزموا الجيش المصري في ثلاثة حروب اعوام 1948 و1965 و1967! وكادوا يدمرون الجيشين الثاني والثالث عام 1973 لولا وساطة السيد هنري كيسنجر السلف السابق للسمراء طويلة اللسان اياها! ولكن لكي نكون منصفين فاننا نقر ونعترف بانه لم يكن يخطر ببال سيادته ولا ببال اي مواطن مصري او عربي في ظهيرة ذلك اليوم المشهود العاشر من رمضان.. السادس من اكتوبر 1973، وهو يوجه طائراته نحو الاهداف العسكرية الاسرائيلية في سيناءالمحتلة وقتها لتدميرها انه هو نفسه سيوجه بعد اثنين وثلاثين سنة من ذلك اليوم العظيم، انابيبه الممتلئة بالغاز السائل المصري وعبر سيناء المحررة والمنزوعة السلاح ليمد الاسرائيليين باسباب الحياة! بعد ان مدهم في ذلك اليوم المجيد باسباب الموت! فسبحان الله مغير الاحوال! ويا ايتها الديمقراطية الامريكية كم من الجرائم ترتكب باسمك! ثم ان السيدة النحيفة السمرء حطت رحالها في الرياض! وقابلت المسؤولين هناك وهي حاسرة الرأس وترتدي البنطلون! ولم يكن معها محرم! ولم يكن اي من الذين قابلتهم من هؤلاء المسؤولين من محارمها! وذلك في تحد سافر لتقاليد البلاد.. ولعقيدتها.. ولسياستها الرسمية التي لا تسمح للمرأة هناك بقيادة السيارة ولا بمقابلة الرجال من غير المحارم.. ولا بظهور المرأة سافرة حاسرة الرأس امام الرجال! تلك التقاليد وتلك العقيدة وتلك السياسة التي اودت في يوم من الايام بحياة تلميذات صغيرات شب حريق في مدرستهم.. ولكن رجال الاطفاء منعوا من الدخول الي المدرسة لاطفاء الحريق وانقاذ التلميذات الصغيرات لان رجال الاطفاء لم يكونوا من محارم التلميذات! وتركت للنيران مهمة القضاء علي تلك المدرسة ومن فيها لان في ذلك اقامة لشرع الله! الذين فعلوا ذلك واكثر وقفوا صفا واحدا يصافحون امرأة اجنبية لا يجيز لهم مذهبهم مصافحتها! ولتلتقط لهم الصور التذكارية معها وهي حاسرة الرأس وترتدي البنطلون! ولم يكن احد منهم زوجا لها او اخا لها بالرضاعة! ولم تكتف تلك السيدة النحيفة بهذا التحدي وهذه الاستهانة بتقاليد تلك البلاد وعقيدتها وسياستها ولكنها شنت ايضا هجوما اقل ما يوصف به انه غير دبلوماسي علي نظام الحكم هناك وطالبت المسؤولين بتحقيق الانفتاح والديمقراطية وحقوق الانسان وهي كلها امور لا يعترف بها النظام الحاكم هناك ولا يريدها! وربما تكون قد طالبت بامور اخري لا نعلمها! وهي تفعل ذلك مع دولة تعتبر اكثر الدول العربية ارتباطا بالولاياتالمتحدة، فهي التي تمدها بمعظم احتياجاتها من النفط الخام! وتوفر لها في اراضيها القواعد العسكرية البرية والبحرية والجوية! وتقدم لها جميع التسهيلات اللوجستية في البر والبحر والجو! وتدعم كل سياساتها العدوانية في المنطقة العربية! ولكن هذه العلاقة الخاصة والحميمة بين الولاياتالمتحدة وهؤلاء الحكام لم تحل دون قيام السيدة الامريكية النحيفة السمراء بالهجوم علي المملكة وسياستها وتحدي عقيدتها وتقاليدها! ذلك لانها كانت تحمل في حقيبة يدها ذلك الشريط الذي اطلع عليه الحكام العرب فولوا منه فرارا وملئت قلوبهم منه رعبا! اما ثالثة الاثافي فكان مؤتمر الاديان في قطر! حيث وجهت الدعوة من حكومة دولة عربية الي حاخامات يهود قدموا مباشرة من الارض المحتلة ليشاركوا في مؤتمر حول الاديان السماوية الثلاثة.. ونحن بالطبع لا نعترض علي عقد مثل هذه اللقاءات بين ممثلي الاديان السماوية اذا كان الهدف من ذلك هو تحقيق التفاهم والتعاون بين المسلمين والمسيحيين واليهود في ظل القيم المشتركة بين هذه الديانات الثلاث! ولكننا نري ان ذلك لم يكن الهدف الحقيقي وراء تنظيم هذا المؤتمر والدعوة اليه! بل كان ذلك من قبيل الحق الذي اريد به الباطل! الهدف الحقيقي من المؤتمر كان التطبيع مع العدو الصهيوني! تلك الدعوة التي تتبناها الادارات الامريكية المتعاقبة منذ سنوات واتخذتها الادارة اليمينية الحالية عنوانا لسياستها الخارجية في المنطقة العربية! وليس هناك اسوأ من استغلال الدين لتحقيق مآرب سياسية رخيصة! وليس اسوأ من ذلك كله الا ان تتولي هذه المهمة دولة عربية! كنا في الماضي القريب نجد من حكامنا من يقول طز في امريكا! وكنا نجد منهم من يقول لامريكا ان تشرب من البحر الاحمر اذا لم يكفها البحر الابيض! وكنا نجد منهم من يلوح باستخدام سلاح النفط ضد امريكا! ولكن هؤلاء الحكام اما انهم رحلوا عنا الي العالم الاخر او انهم بدلوا مواقفهم ودخلوا بيت الطاعة الامريكي بعد ان شاهدوا ذلك الشريط الذي تحمله السيدة الامريكية السمراء! وهو الذي منحها كل هذه الجرأة وطول اللسان ومكنها من املاء ارادتها علي الحكام العرب فرادي وجماعات.. فلا يردون لها قولا!! تأمرهم فيطيعون! وتنهاهم فينتهون! وهكذا اصبح مصيرنا كامة عربية بيد هذه السيدة النحيفة السمراء! فعلي الذين يريدون تغيير الانظمة العربية ان يتوجهوا اليها! وعلي الذين يريدون ان يروا الديمقراطية والتعددية السياسية واحترام حقوق الانسان في الوطن العربي.. ان يلجأوا اليها! وعلي الذين يطالبون بحرية الصحافة وحرية الرأي وقيام مؤسسات المجتمع المدني في بلادنا ان يلتمسوا ذلك عندها! وعلي الذين يعترضون علي تشبث حكامنا بكراسي الحكم وتوريث الحكم لابنائهم من بعدهم ان يطلبوا منها منعهم من ذلك! وعلي الذين يريدون اطلاق سراح السجناء السياسيين العرب، وما اكثرهم ان يشدوا الرحال اليها! فهي وحدها القادرة علي فعل كل ذلك واكثر! الم تعد هي ولية امر حكامنا!! جاء في الاثر: لعن الله قوماً ولوا امرهم امرأة! ---- صحيفة القدس العربي اللندنية في 14 -7 -2005