ما يجرى من احتجاجات وصدامات فى الشوارع وحول المؤسسات والأحزاب والهيئات وما يفعله الزند فى القضاء وما يتردد عن وجود مؤامرات للإطاحة بأول رئيس منتخب فى التاريخ الحديث والمعاصر للمصريين ما هو إلا آثار وأعراض جانبية لطبيعة الصراع المحتدم فى مصر منذ الإطاحة بمبارك بل منذ عقود خلت حول طبيعة الهوية المعبرة عن الأمة المصرية وما تمخض عنها من أسئلة هامة ساهمت فى تشكيل مجمل الأوضاع المصرية. فالصراع الإسلامى العلمانى بدأت إرهاصاته مبكراً وتحديداً عقب خروج الفرنسيين من مصر عام 1801 بعد ثورة شعبية هائلة قادها الأزهر الشريف بعلمائه وطلابه (الممثل للطرف الإسلامى حينها)، ولكن للأسف استطاع المغامر الألبانى محمد على السيطرة على الحكم واجتهد فى بناء مشروعه النهضوى التوسعى ولكنه للأسف أراد أن ينحرف ببوصلة الاتجاه بعيداً عن الإسلام وبدأ فى الاتجاه صوب العلمانية بعد أن غدر برجال الأزهر والأعيان الكبار كالسيد عمر مكرم نقيب الأشراف ولكن انتهت مغامرات محمد على بتحطيم مشروعه على صخرة المؤامرات الدولية المعروفة وتم تحجيم قواته وبدء التدخل السافر فى الشؤون الداخلية لمصر ومضى أسلافه فى محاولة فرض القيم العلمانية على الداخل المصرى خاصة فى عهد إسماعيل إلى أن انتهى المشهد بالاحتلال البريطانى لمصر، وكان اللافت للنظر أن الشعب المصرى الذى ثار قبلها بسنوات على الفرنسيين فور دخولهم مصر لم يفعلها مع الإنجليز حتى عام 1919 ولعل ذلك يرجع إلى تآكل الطليعة "الإسلامية" التى قادت الثورة ضد الفرنسيين بفعل الحكم الديكتاتورى الذى اجتهد محمد على لترسيخه فى البلاد . وكان على الشعب المصرى أن ينتظر سنوات كى تندلع ثورته المنتظرة ضد الاحتلال البريطانى وكسابقتها انطلقت الثورة من الأزهر الشريف والذى لم يكن مؤهلاً - بعد عمليات التجريف الهائلة التى أجراها محمد على وخلفاؤه فى بنيته وطبيعته – لقيادة الجماهير المصرية فى ثورتها فوثب عليها سعد زغلول بمشروعه العلمانى ( الليبرالى ) وتمكن من السطو على دماء المصريين ليفشل فشلاً ذريعاً فى تحقيق رسالة ثورة 19 الاستقلالية ويعجز حزب الوفد عن قيادة الشعب المصرى بعد أن تعرض للانقسامات الحادة والتشرذم الحزبى فكان من الطبيعى ظهور حركة الإخوان المسلمين التى جاءت كرد فعل على إلغاء الخلافة الإسلامية واجتهد الأستاذ البنا رحمه الله فى بعث الإسلام من بين الركام بعد أن كاد يتحول إلى طقوس صوفية وممارسات فردية لا علاقة له بالحياة ولا بشؤونها، وكانت حركة الإخوان هى الرافعة الشعبية لحركة ضباط يوليو قبل انقلاب الأخيرة عليها وكرر عبد الناصر ما فعله سعد زغلول ومحمد على وحاول بناء مشروعه "القومى" بعيداً عن التصور الإسلامى الجامع ولكنه فشل ومنى بهزائم مهينة لم تعرفها مصر فى تاريخها المعاصر وكان 5 يونيو 67 بمثابة شهادة الوفاة له ولمشروعه. واليوم يتجدد الصراع مرة أخرى عقب ثورة يناير فالمشروع العلمانى يتشبث بمكاسبه السلطوية التى حققها على مدار أكثر من قرنين من الزمان ويبدو كالغريق الذى يبحث عن "قشة" يتعلق بها سواء كانت قى صورة تدخلات خارجية أو نداءات للمؤسسة العسكرية وتوسلات لها بالتدخل وتكرار ما حدث فى يوليو وفى زمان الباشا محمد على، بل وصل الأمر إلى تحالفات فجة ومفضوحة مع فلول النظام المباد أو محاولة الحشد على أساس طائفى. فى مواجهة هذا المشروع يقف المشروع الإسلامى محتمياً بالعمق الحضارى والعقدى للشعب المصرية معتمدًا على رصيد من الخبرات التنظيمية والحشود الجماهيرية مستفيداً من سنوات الصراع الطويلة والمريرة مع الأنظمة السلطوية السابقة فى تعبئة الجماهير والإصرار على الحفاظ على الهوية الإسلامية والاستفادة من خبرات التاريخ السلبية والتى أدت بالإسلاميين إلى مزالق خطيرة أخرت مشروعهم لعقود طويلة ولعل فى طبيعة العلاقة بين فصائل الحركة الإسلامية والمجلس العسكرى فى فترة ما بعد الثورة يبرهن على النضج الذى تعاملت به الحركة مع المؤسسة العسكرية تجنباً لأى سيناريو سيئ قد يعيق عملية الانتقال السلمى للسلطة كما وقفت بحزم ضد محاولات النخب العلمانية التى كانت تبغى "تتريك" الحالة المصرية وجعل المؤسسة العسكرية فوق كل السلطات (التصدى لوثيقة السلمى أوضح مثال). والخلاصة فإن معظم الآثار التى نراها والتوترات التى نحيا فيها إنما هى انعكاس للصراع المحتدم بين المشروع العلمانى الشائخ والمشروع الإسلامى الناهض الذى يحتاج إلى وقفة ضرورية لتقييم الفترة الماضية بكل تجرد وإخلاص لمعالجة السلبيات وتعظيم الإيجابيات ولكل حادث حديث بإذن الله. [email protected]