عندما وقعت أحداث العنف المتوالية في مصر على يد الجماعة الإسلامية ، كان تصور الأجهزة الأمنية في مصر أن هذا " عنف تنظيمي " مجرد من أي غطاء سياسي ، يعني حالة إجرامية يمكن عزلها والتعامل معها بشكل إجرائي ، من خلال تفكيك الخلايا وتصفية الكوادر النشطة أو اعتقالها وبالتالي يزول خطر الإرهاب عن البلاد ، كان هذا تصورا بالغ الخطورة ، بقدر ما هو شديد السطحية ، لأن ظاهرة العنف المتصل بالحركة الإسلامية هي ظاهرة سياسية واجتماعية في المقام الأول ، تتعلق بالمنهج السياسي الذي يمارسه نظام الحكم في التعامل مع القوى السياسية العلنية والسرية ، والبيئة الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية الحاضنة للأجيال الجديدة ، وهيبة القانون ومساحة الحرية التي تفرغ احتقانات النفوس والمنافذ التعبيرية المتاحة لهذه القوى التي تستوعب طاقاتها وغضبها وطموحاتها في قنوات مأمونة ، كل هذا كان غائبا عن إدراك الدولة وأجهزتها ، بفعل نصائح خاطئة ، وبالتالي عندما قدمت الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد مبادراتهم لوقف العنف والعودة إلى العمل السلمي تصورت الدولة وأجهزتها أن " العنف السياسي " المتصل بالحركة الإسلامية قد انتهى بتفكيك الخلايا و" توبة " قيادات ، واعتقال المتمردين منهم وعزلهم ، وإصدار بعض الكتابات المنددة بالعنف ، حتى جاءت الأحداث الأخيرة في القاهرة وطابا وشرم الشيخ لكي تعيدنا من جديد إلى نقطة الصفر وتعيد السؤال من جديد : أين الخلل ؟ وكيف يمكن مواجهة هذا العنف الأعمى ؟ ولا بأس بأن نعيد ما قلناه من سنوات ونكرره ، إن العنف المتصل بالحركات الإسلامية لا يتصل بأشخاص ، كما لا يتصل جوهريا بأفكار ، وإنما يتصل ببيئة إنسانية واجتماعية وقانونية حاضنة للعنف ، واستجابات أمنية وسياسية مهيجة له ، ومناخ سياسي بأفق مسدود يسهل كل فكرة أو إشارة للعمل السري وخارج إطار الشرعية ، لأنه لا توجد شرعية سياسية حقيقية وأنت محاصر بانتخابات مزورة عيني عينك وبرلمان تهريجي وأحزاب مقفلة على أصحاب الولاء حتى لو كانوا من قراء الكف والفنجان في حين تعزل القوى الحية والحقيقية عن حقها السياسي ، واستباحة أمنية لا يردعها شيئ عن كرامة المواطن وأهله ، ومحاكم استثنائية مفصلة لأحكام الدمار والموت ، وقانون طوارئ يحول المواطن على مدار اليوم والليلة إلى أسير الهيمنة الأمنية أو تسامح ولي الأمر ، بدون أي غطاء من عدالة مستقلة ، أذكر تماما جلسة جمعتني مع قيادات أمنية كبيرة في مقر وزارة الداخلية في لاظوغلي منذ قرابة خمس سنوات ، عندما تقدمت بأوراق تأسيس حزب " الإصلاح " الذي كان يهدف لاحتواء تيارات التشدد في الحركة الإسلامية من خلال مشروع سياسي رشيد ، وتم رفضه طبعا من قبل أجهزة الدولة المستعلية والمتعجرفة ، في هذا اللقاء مع الأجهزة الأمنية التي كانت واثقة ومسترخية ومطمئنة تماما لأنها أنهت العنف السياسي من جذوره ، قلت لهم بوضوح شديد أنني أخشى إن استمر الحال على ما هو عليه في مصر من انسداد أفق الإصلاح أمام الأجيال الجديدة من الإسلاميين ، أن نفاجأ في مصر عما قريب بدوامات جديدة من العنف الأسود المروع ، نتحسر فيها على أيام العنف السابقة والتي ستكون بالمقارنة مع الجديد " مجرد لعب عيال " ، القيادات الأمنية التي سمعت مني هذا الكلام ما زالت موجودة ، ولعلهم ممن يقرأون هذه الأسطر ويتذكرونها جيدا . [email protected]