في مقال سابق تحدثنا عن الخبرة المصرية في الممارسة الديمقراطية ، و ضربنا مثلا بتجربة محمد على و كيف أنه قد تم اختياره من قبل ممثلي الأمة و على نحو لا يصدق أحد أنه قد تمت مراسمه و سيناريوهاته في بدايات القرن التاسع عشر عام 1805 ، فالمشهد الذي صوره لنا الجبرتي و شرحه تفصيلا د. عمارة في كتابه الذي أشرنا إليه في المقال السابق : كتاب "الإسلام و حقوق الإنسان" ، تنقل لنا صورة بالغة التقدم و التحضر و كأن الحياة مصر آنذاك كانت توازي التطور السياسي الذي كان يستعر في أوربا ، فضلا عن أن الذين قادوا عملية التحول الديمقراطي في مصر هم المشايخ و علماء الدين ، ما يعني أن فكرة "أختيار الأمة" لرئيسها اختيارا حرا ، قد تم استعارتها من التراث السياسي الإسلامي . ولكن ما حققته القوي الوطنية المصرية في هذا الشأن حتى الآن لا يتناسب مطلقاً، وما تملكه مصر من رصيد كبير علي صعيد الممارسات السياسية ولعل ذلك يرجع لأسباب كثيرة خفية و علنية ، مباشرة و غير مباشرة ، و إذا كانت الأسباب المباشرة معروفة لدينا جميعا ، فإن الخفي و الغير مباشر هو الأولى بالإشارة إليه ، خذ مثلا بعض ما يوجد في الفلكلور الشعبي المصري من نماذج تتحمل في تقديري قدراً من المسئولية في إعاقة التحول الديمقراطي في مصر، فالأغنية المصرية المعاصرة مثلاً والتي توصف بالوطنية ، لا تزال تمارس دوراً عظيماً في تقوية الرابطة بين " الأنا "و "الدولة " في تصوير الزعامة السياسة المصرية وتأصيل مفهوم " أنا الدولة " في الوعي الجمعي الشعبي المصري من خلال ما تقدمه من أغان تختزل " الأمة " في شخص الزعيم أو القائد ، وربط الطرفين معا برباط مقدس لا ينفصم . لا نقول هنا إنها تعكس وضعاً قائماً ومعاشاً ولكنها علي الأقل تمارس دور تأليب الرأي العام ضد " المعارضة " إذ إن الأغنية التي علي هذا النحو توحي ضمنياً بأن المعارض السياسي لمنهج الزعيم في إدارة البلاد هو " ضد " الدولة وربما يكون "عدواً" لها. إذ لا فرق كما تشير الأغنية بين الزعيم والدولة فضلاً عن أنها تعيد صياغة الوعي المصري بشكل يجعله يرفض التعددية، ويقبل نظم الحكم الشمولية وينحاز تلقائياً إلي وجهة النظر الرسمية، رافضاً الإنصات إلي " الرأي الآخر" الذي تطرحه المعارضة !، كما أن مثل هذه الأغاني لا تليق بدولة تجتهد في سبيل إرساء تقاليد وأعراف ديمقراطية أصيلة يتطلع الطوق العرب ومن حولها إلي الاحتذاء بها.