التاريخ المصرى ملىء بمشاهد توضح كيف كان حفاظ المثقف على المسافة الفاصلة بينه وبين السلطة، معيارا فاصلا فى ازدهار الثقافة، وفى علاقته بالناس. وكأن القدر يقول لنا «هنروح بعيد ليه»، فها هو الشاعر أحمد فؤاد نجم يدلل على هذا الكلام بعودة حميدة إلى صفوف «الدرجة الثالثة»، ويستقيل من حزب الوفد تضامنا مع جريدة الدستور أمام المذبحة التى آلت إليها، بعدما أثار انضمامه إلى الوفد جدلا. سألته وقتها عن أسباب هذا الانضمام، فقال إن رغبته جاءت بعدما تابع انتخابات رئاسة حزب الوفد الأخيرة، والتى أعادته للمشهد الديمقراطى الذى لم يره منذ 50 سنة: «عندما شكل حسين سرى باشا الوزارة عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، وأذكر أن الوفد فاز بمقاعد الأغلبية بجدارة، وأنصف الموظفين والمتظلمين، وانصلح حال التعليم، ولم تتحرك قبضة الأمن إلا فى اتجاه العدالة». وتذكر نجم مع «الشروق» أحداثا، قال: «إن جيلكم ميعرفهاش»، منها مثلا عندما مر المناضل الهندى الشهير غاندى سنة 1944 بميناء بورسعيد فى إحدى رحلاته، وذهب إليه مصطفى النحاس باشا وخطب خطبة عظيمة على سبيل التحية لغاندى، الذى اندهش من حرارة الاستقبال وقال للنحاس بعد سماع خطبته: «أنتم المصريون أبناء ثورة 1919، وأنتم الذين علمتمونا الكفاح والنضال الوطنى». ولأن الأرض الخصبة للمثقف الحقيقى تقع ناحية الشعب، لم يجد نجم صعوبة فى العودة، واستقبلته الهتافات: «نجم.. نجم لا بديل.. لازم لازم تستقيل». هتافات دللت على قوة أثر الدعم المعنوى عندما يكون من مثقف كبير، وإن لم يتفق البعض على مشروعية تغير موقفه بتغير الظرف السياسى. هتافات شبيهة قابلت الروائى صنع الله إبراهيم عندما رفض قبول جائزة الإبداع الروائى العربى من وزارة الثقافة منذ سنوات، وأعلن كما يرى د. حسين عبدالعزيز، فى دراسته التى تحدثنا عنها فى الحلقة السابقة، عودة «الانتلجنتسيا» المصرية مرة أخرى بعد أن كادت تختفى تماما «نتيجة للقهر المادى والقمع المعنوى الذى يمارس ضدها». هذه المواقف، والبزوغ لأسماء وقفت على الضفة الشعبية، ليست وليدة أيامنا هذه، فكما أشرنا، تمتلئ سطور التاريخ المصرى بأسماء ثقافية كبيرة ظهرت فى ظروف سياسية شبيهة، وتذكر الدراسة التى نتعرض لها، مثلا، كيف: «بزغت جماعة المثقفين فى نهاية حكم الخديو إسماعيل كفئة اجتماعية تتكون من متعلمين ومبدعين وذوى اهتمام مشترك بالثقافة، والفكر نتيجة للسياسة التى اتبعها محمد على، ومن بعده إسماعيل فى إدخال التعليم الحديث على النمط الأوروبى إلى مصر». فى ذلك الوقت كانت مجموعة من المثقفين الأزهريين قد طفت، مثل رفاعة الطهطاوى، ومن قبله الشيخ حسن العطار، ومن بعده الشيخ حسن المرصفى. ثم جاء بعدهم أسماء بحجم محمود سامى باشا البارودى، وعبدالله النديم خطيب الانتفاضة العرابية، وأديب إسحق، ويعقوب صنوع المعروف بأبونضارة والذى كان الخديو إسماعيل يسميه ب«سوليير المصرى».. هذه الأسماء كانت بداية «الانتلجنتسيا» المصرية، ثم جاءت الموجة الثانية فى بداية القرن العشرين بعد هزيمة الانتفاضة العرابية والاحتلال الانجليزى لمصر، وظهرت أسماء مثل الإمام محمد عبده وتلامذته وأتباعه، الذين حملوا على أكتافهم بناء القومية المصرية الليبرالية، من منطلق وجود حضارة حديثة واحدة أنجبتها أوروبا الغربية، ودعمتها مقولة الخديو إسماعيل الشهيرة بأن «مصر أصبحت قطعة من أوروبا». وكان من ضمن الأسماء التى لمعت فى هذه الفترة أحمد لطفى السيد، أستاذ الجيل، الذى أصدر صحيفة «الجريدة» عام 1907، ورأس تحريرها حتى 1914، وهو شخص، يحتاج التوقف عنده لصفحات، ولكن سنكتفى بقول إنه استقال من منصب رئيس الجامعة مرتين كما تذكر الدراسة: «الأولى كانت احتجاجا على نقل رئيس الوزراء آنذاك إسماعيل صدقى للدكتور طه حسين دون أخذ رأيه، بسبب كتابه المثير للجدل «فى الشعر الجاهلى»، والثانية كانت بسبب إنشاء حرس جامعى لقمع إضرابات الطلبة». وهو أحد المواقف الأخرى التى تدلنا على أثر المثقف ودوره طالما استطاع الاستغناء عن بريق السلطة. ثم تأتى الموجة الثالثة من «الانتلجنتسيا المصرية»، والتى بدأت فى أربعينيات القرن العشرين بعدد لا بأس به من المثقفين، وترى الدراسة فى مقدمتهم: «نجيب محفوظ الذى يعكس عالمه الروائى الواقع الثقافى المصرى منذ ثورة 1919 وحتى اليوم»، ثم يأتى آخرون فى النصف الثانى من أربعينيات القرن الماضى مثل يوسف إدريس ونعمان عاشور وعبدالرحمن الخميسى وغيرهم. كل هذه الأسماء وغيرها، ممن اتفقنا مع أفكارهم أو لم نتفق، يقف خلودها دليلا على أهمية «استغناء المثقف»، وإحساسه بالمسئولية تجاه الشعب وكيف كانت الحقبة الزمنية الواحدة تمتلئ بالكثير من الفاعلين، الذين باتوا قلائل فى زمن زادت به البيروقراطية الثقافية المتمثلة فى مؤسسات الدولة الرسمية، والمملوءة بأسماء تم تدجينها. ونذكر من هؤلاء القلائل الفاعلين الناقد الكبير الراحل فاروق عبدالقادر. وبمقارنة سريعة تجريها الدراسة المذكورة بين حصيلة الثقافة بعد نحو نصف قرن من إنشاء وزارة الثقافة المصرية «المجلس الأعلى للفنون والآداب سابقا»، وبين حصيلتها فى عهود لم تكن بها وزارة للثقافة، نجد أنه قديما كان: «لدينا مثقفون ومبدعون كبار لهم مكانتهم العالية فى المنطقة العربية كلها، وكان لدينا «انتلجنتسيا» مرموقة تبنى قضايا الوطن، ومصالح طبقات الشعب المختلفة، وكان لدينا شوقى وطه حسين والمازنى والعقاد وتوفيق الحكيم ثم يحيى حقى ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، وكان لدينا مجلات الرسالة والثقافة والكاتب المصرى، وكان لدينا سيد درويش والقصبجى وزكريا أحمد، إضافة إلى محمود مختار وراغب عياد»، يكمل د.حسين عبدالعزيز فى دراسته أن «الثقافة لا تنتجها بنية تحتية تكلفت الملايين، ولا بنية فوقية بيروقراطية، ولكن الإبداع الأصيل ينتجه المثقف المستقل المندمج فى شعبه والملتزم بقضايا وطنه والمبتعد عن الاخطبوط السلطوى البيروقراطى».