صدق من قال أن الرجال مواقف ، وأن معدن الرجل لا يظهر على حقيقته إلا في المواقف الصعبة التي تمتحن الثبات على المبدأ . وأعتقد أن قرار رئيس حزب (الوفد) ترشيح نفسه في مهزلة الانتخابات الرئاسية كان المسمار الأخير في نعش هذا الحزب ومصداقيته. فشتان بين حزب سراج الدين وحزب نعمان جمعة ، وشتان بين جريدة مصطفى شردي والجريدة الحالية التي دق القائمون عليها مسامير أخرى في نعش (الوفد) . كانت "الوفد" في عهد المرحوم مصطفى شردي صحيفة محترمة قوية تكاد تكون هي الصحيفة الأولى في مصر قبل أن يجري بها ماجرى. والأكثر مدعاة للأسف أن ترشيح السيد جمعة جاء متزامنا مع القمع الهمجي الذي مارسه أمن الدولة ضد مظاهرة حركة (كفاية) في ميدان التحرير، وكأن رسالة (الوفد) هي إعلان طلاقه من كل مبادئه الليبرالية وثوابته الحقوقية التي قامت عليها سمعته ومصداقيته. يعني هذا التزامن أيضا أن الترشيح كان بمثابة طعنة في الظهر لفصائل المعارضة الوطنية التي قاطعت الإستفتاء على تعديل المادة 76 وانتخابات الرئاسة القادمة. لقد قبل المرشحون في هذه الانتخابات المطبوخة أن يستخف بهم نظام مبارك ، فأطاعوه . وقبلوا أن يلعبوا أدوار الكومبارس في مسرحية هزلية يعلم الجميع نهايتها ، بل وحبكتها أيضا ، حيث سيعلن فوز مبارك بنسبة تتراوح حول 80 في المائة ، وتوزيع النسبة الباقية على أيمن نور ونعمان جمعة حتى تتغنى صحافة النفاق بالديمقراطية. وهكذا إنضم جمعة إلى تحالف التطرف الذي تعاني منه المنطقة: من ناحية تطرف علماني تفريطي تقوده الأنظمة الحاكمة وحلفاؤها الذين ينافقونها طمعا في فتات الكعكة ، ويمدونها بما تريده من غطاء يدعم أكاذيبها عن الديمقراطية وتدليسها على الناس ، ويبرر لها التوحش في قمع المعارضة "المتمردة". ومن ناحية أخرى تطرف ديني تكفيري تحركه بالريموت كنترول قوى خارجية لا هم لها إلا التخديم على هدف الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة. هما وجهان لعملة التطرف يخدم كل منهما وجود الآخر ويبرره ، تماما كما تبرر أنظمة الإستبداد العربية وجود أنظمة الاحتلال الخارجية والعكس . فنظام الاستبداد العربي متحالف مع نظام الاحتلال الصهيوني (في فلسطين والعراق).. كل منهما يبرر وجوده بوجود الآخر، وهما وجهان لعملة الظلم .