نحن هنا لا نتحدث عن قصرين مختلفين، بل عن قصر واحد اتخذه الرئيس مبارك مقرًا للحكم من قبل، وسار على نهجه الرئيس محمد مرسى من بعد. فقصر الاتحادية، الذى يقع فى هليوبوليس بمصر الجديدة شرقى القاهرة، هو موضوع حديثنا فى هذا المقال. فهو قصر متشابه فى المبنى والهيكل فى عهد كلا الرجلين، لكنه مختلف فى المعنى والمضمون بكل تأكيد. فقصر الاتحادية هو القصر الرسمى للدولة المصرية، ومن ثم فهو مقر العمل الرسمي لرئاسة الجمهورية، يتم فيه استقبال الوفود الرسمية الزائرة لمصر. لكن كم غريب أمر هذا القصر مع ساكنه فى أقل من سنتين من قيام الثورة المصرية؟ فالقصر الذى كان مبارك يدير منه البلاد هو نفسه الذى أحاط به الثوار منذ يوم الأربعاء 9 فبراير 2011 حتى هروبه منه ظهيرة الجمعة 11 فبراير 2011. وهو نفسه القصر، الذى شهد تدافعًا وحراكًا شعبيًا لإعلان الدعم للرئيس مرسى فى إعلانه الدستورى الصادر بتاريخ 21 نوفمبر 2012. فالقصر هو القصر، لكن الرجل غير الرجل، والمحيطون بالقصر يوم الجمعة 23 نوفمبر 2012، ربما كانوا فصيلًا مهمًا من فصائل المحاصرين لقصر مبارك من قبل، لكن بالتأكيد هم ينتمون للرئيس الجديد شكلًا وموضوعًا. قصر كان يديره الفاسدان زكريا عزمى وجمال عبدالعزيز، هو بالتأكيد غير القصر الذى يديره الإخوان المسلمون وآخرون. قصر أغلق أبوابه أمام الجماهير فى عصر مبارك، ولم يدخله إلا الفاسدون والمتطفلون، هو بالتأكيد غير القصر الذى فتح أبوابه لديوان المظالم، لسماع أنات المظلومين والعاطلين والمفصولين والمنكسرين والمضارين فى هذا الوطن. قصر أدار أموره فى الخفاء من قبل، يختلف قطعًا عن قصر يدير أموره فى العلن. ورغم أن قصر مبارك قد أبقى على حكمه لمدة ثلاثين عامًا عبر شبكة الفساد التى نشرها فى كل أرجاء البلاد، ولا يمكن مقارنته بقصر مبارك بأى حال من الأحوال، غير أن قصر مرسى تسبب فى أزمة حقيقية وانقسام داخل الوطن، بالإعلان الدستورى الصادر عن حاكم القصر يوم الأربعاء 21 نوفمبر 2011. فهذا الإعلان الذى تضمن عزل النائب العام، وحَظر على أية جهة قضائية الحكم بحل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية، واعتبر القرارات والقوانين التي يصدرها نهائية ولا تقبل الطعن أمام أية جهة قضائية، جعلت القصر يبدو مغايرًا للصورة التى استبشر بها المصريون وصول حاكمه الجديد لسدة الحكم. فهل لعنة القصر تخترق حصانة أى حاكم يقطنه؟ أم أن الحاكم هو الذى يفرض شخصيته على القصر؟ كثير من المحللين السياسيين اعتبروا الإعلان الدستورى الصادر عن الرئيس مرسى، سقوطًا لدولة القانون، وقضاءً تامًا على السلطة القضائية، وتحديًا مباشرًا وتهديدًا للمحاكم والهيئات القضائية العليا في البلاد، كالمحكمة الدستورية العليا والمحكمة الإدارية العليا المنظور أمامهما دعاوى حل التأسيسية ومجلس الشورى، وتعطيلًا للعمل بالقوانين السارية في البلاد، غير أن هذا الإعلان قد خلق بالفعل حالة انقسام داخل القضاة أنفسهم، بين تيار قضاة من أجل مصر، ونادى القضاة. وهو الذى دفع بميليشيات الإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية للإحاطة بهذا القصر وحمايته من ناحية، ولتأييد قرارات الرئيس من ناحية أخرى. وهو الإعلان الذى رفضته معظم القوى السياسية ودعت لمحاربته والوقوف ضده بالمرصاد. بل حشدت الجماهير ضده فى جمعة الغضب الثالثة، أو ما عرف بجمعة الإنذار، لإجبار الرئيس على التنازل عنه. لكن أهم ما فى موضوع القصر هذه المرة، هو الذى لم ينتبه إليه أحد. وهو أن فكرة محاصرة القصر الجمهورى التى نفذت ضد مبارك يوم الجمعة 11 فبراير 2011 قد سقطت على أرض الواقع بلا رجعة فى جمعة 23 نوفمبر 2012. فلاشك أن بحر الجماهير الهائج الممتد من ميدان التحرير حتى هذا القصر، لمحاصرة مبارك وإجباره على الرحيل من قبل، قد تغيرت بالتأكيد إلى مهرجان احتفالى يمكن تنظيمه فى كل مرة حول القصر احتفالا بقرارات الرئيس من جهة، وحمايته من أى تفكير يستهدف القصر مرة أخرى. وربما كان مشهد الوجود المكثف لقوات الأمن بمحيط القصر فى هذه الجمعة، غير مرغوب فى إظهاره فى هذه اللقطة المهمة من تاريخ القصر. فالأهم كان هو التركيز على الرحلات المجانية المنتظمة من كل محافظات الجمهورية لتتوافد عليه، استجابة لدعوة جماعة الإخوان المسلمين بوجوب أداء صلاة الجمعة أمامه. فهذه اللقطة كانت هى الهدف الرئيسى من استعراض القوة بين الأطراف المؤيدة والمعارضة للقرارات. ولعل قيام شباب الإخوان المسلمين فى هذا اليوم، بتشكيل لجان شعبية على أول شارع الميرغني، فى ظل تواجد عدد كبير من سيارات وجنود الأمن المركزي، يعد سابقة تحدث لأول مرة فى تاريخ القصر وحكامه. بما يعنى أن القصر لن يعتمد مستقبلًا على الأجهزة الرسمية فقط فى تأمين نفسه، بل سيعتمد على أنصاره فى هذا التأمين. ربما لثقته المطلقه فى جماعته، وربما خشية لمؤامرات تلك الأجهزة عليه، كما فعلت مع مبارك من قبل. ومع أن هذه الإحاطة ربما تكون هى السبب فى اقتحام مقرات حزب الحرية والعدالة فى عدد من محافظات الجمهورية وحرق بعضها فى هذه الجمعة، إلا أن اللقطة الرئيسية التى سوقت عبر الشاشات هى اللقطة الأهم المراد نشرها وتعميمها. فإظهار القصر، وهو محاط من كل جهاته بأنصاره والمؤيدين له، تعد هى اللقطة الأهم فى تاريخ القصر وحكامه. فهذه اللقطة لا تهدف لتأييد قرارات الرئيس مرسى فحسب، بل تقطع على المعارضين أية إمكانية فى التفكير فى تكرار تجربة محاصرة مبارك مرة أخرى. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.