بعد إنتهاء عمليات "عاصفة الصحراء" عام 1991، خطب الرئيس جورج بوش الأب محرضا أكراد الشمال وشيعة الجنوب للانتفاض على حكم صدام حسين ، ثم لم يحرك ساكنا عندما قامت قوات صدام بقمع تمرد الطائفتين بوحشية. تساءل كثيرون حينئذ لماذا أغمضت أميركا عينها الحمراء وربما فتحت عينا أخرى خضراء لصدام ، فسمحت له بالاستفراد بأهالي الطائفتين . بغض النظرعن الأعذار والمبررات التي أطلقتها واشنطن لتبرير هذا السلوك ، كانت المحصلة هي ترسيخ القناعة لدى شعب العراق بأنه لا قبل له بالثورة على صدام ، وأنه لاخيار أمامه سوى التوسل للأمريكيين لتخليصهم من هذا الحكم ، والترحيب بهم وفتح العراق لهم في الوقت الذي يحددونه. شئ من هذا القبيل يحدث الآن في مصر. فالعين الحمراء التي فتحتها أميركا لنظام حكم الرئيس مبارك في مصر طوال الشهور الماضية ، إستبدلها الأمريكيون مؤخرا بعين خضراء ، كما أشرت بالأمس . فقد ظهرذلك في تصريحات لورا بوش خلال زيارتها لمصر، والتي أشادت فيها ب "الإصلاحات السياسية" للرئيس مبارك ، وفي المديح الذي تلقاه رئيس الوزراء أحمد نظيف أثناء زيارته لواشنطن ، وفي الثناء الذي أغدقه روبرت زوليك مساعد وزير الخارجية الأمريكي خلال زيارته للقاهرة ، والتي أعرب خلالها عن تقدير واشنطن للمواقف التي اتخذتها الحكومة المصرية مؤخرا ، سواء على الصعيد السياسي بممارسة ضغوط على الفصائل الفلسطينية بالكف عن إزعاج إسرائيل وتهديد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ، أو في التسهيلات الاقتصادية التي قدمتها القاهرة للشركات الأمريكية للعمل في مصر ، خاصة في مجالي الاتصالات والبترول، فضلا عن تعهده بتخفيف الضغوط المطالبة بتسريع وتيرة الإصلاحات السياسية. ثم أخيرا تكرار دافيد ولش الإشادة ب "إصلاحات" مبارك منذ أسبوعين في القاهرة. أما الإنتقادات التي تصدر عن واشنطن بين الحين والآخر بشأن قسوة التعامل الأمني مع مظاهرات حركة (كفاية) ، فهي لا تعني أن الإدارة الأمريكية أعادت فتح عينها الحمراء . إنما هو مجرد "عتاب أحباء" لابد من توجيهه كتأدية واجب .. عتاب يحتاجه للاستناد إليه المتأمركون في العالم العربي ، أو "المارينز العرب".. عتاب من نوعية ما دأبت عليه الإدارات الأمريكية مع إسرائيل كلما إرتكبت مجزرة أو أقامت مستوطنة .. عتاب لا يقدم ولايؤخر، ولا يهدد إستقرار نظام إحتلال أو نظام إستبداد. لا يعني ماسبق أيضا أن أميركا وضعت بيضها كله في سلة نظام حكم الرئيس مبارك . وإنما هي لعبة قذرة لعبها الأمريكيون في أماكن كثيرة من قبل ، كما سيأتي تفصيله غدا ، هدفها إثارة القلق والإضطراب وتعميق الكراهية وانعدام الثقة بين نظام مدمن للحكم مستميت عليه ومعارضة وطنية تواقة للحرية ، وذلك بتداول فتح وغلق العين الحمراء بالضغط على نظام حكم مبارك تارة ، وإعلان التأييد له تارة أخرى.. أي تشجيع المعارضة تارة وطمأنة الحكم تارة أخرى . والعين الحمراء تفتح لنظام مبارك أيضا لإثارة ذعره وإبتزاز تنازل هام تطلبه إسرائيل . هذه اللعبة مرشحة للاستمرار إلى أن يحين وقت الانتهاء من سوريا ولبنان وإيران ، وإستنفاذ الأمريكيين أغراضهم من نظام حكم الرئيس مبارك . فإذا ظلت الأوضاع على ما هي عليه عندما يبدأ الأمريكيون تركيز جهودهم ضدنا ، سيكون النظام السياسي المصري هو ومراكز القوى والنفاق المحيطة به قد نجحوا في تسليم مصر لقمة سائغة كما فعل صدام بالعراق وكما يفعل الأسد الآن بسوريا.