القسوة التي تعامل بها النظام البوليسي مع مظاهرة حركة (كفاية) السبت الماضي، وما صاحبها من إعتقالات شملت أساتذة جامعيين أفاضل ، جاءت مفاجئة لكثيرين كانوا يعتقدون أن عين أميركا الحمراء تخيف النظام إلى درجة لن يجد معها من خيار إلا التساهل مع المظاهرات . وما غاب عن هؤلاء هو أن عين أميركا الحمراء يمكن أن تتحول إلى خضراء في لمح البصر، وأن ملف الإصلاح الديمقراطي في مصر لديها يمكن أن يغلق ويوضع على الرف إلى حين تستجد الحاجة إليه. إن الأغلبية الوطنية المعارضة في مصر، التي تعتبر الديمقراطية وسيلة لتحقيق السلم الداخلي ، تدرك أن الديمقراطية التي يسعى الأمريكيون لتصديرها إلينا هي بضاعة مسمومة يراد لها أن تكون وسيلة لتعميق الخصومة والعداء بين فرقاء الداخل وصرف الانتباه عما يجري في فلسطين ، وبالذات في القدس. وقد أشار تجاهل أغلبية المعارضين لوزيرة الخارجية الأمريكية ، أثناء زيارتها الأخيرة لمصر، إلى درجة راقية من الوعي يجب ألا يغيب عليه ما يلي : أولا أن الأمريكيين كانوا يسعون بضغوطهم على الحكم منذ شهور إلى إغراء المعارضة لبيع أميركا إلى الشارع المصري . ولما فشلوا في ذلك ، واستمرت المعارضة على عدائها للأجندة الأمريكية ، أرادوا أن يلقوننا درسا فأغلقوا العين الحمراء وفتحوا العين الخضراء وهم مدركون لما سيترتب على ذلك من تحول في سلوك الدمى المدمنة للسلطة . ثانيا أن الإدارة الأمريكية غندما تضغط على القاهرة ، فإن هناك سقفا لهذه الضغوط يحول دون الوصول لهدف المعارضة المنشود : تغيير شامل يقود إلى إزاحة حليف أميركا الأول ، وإصلاح حقيقي يقود إلى ديمقراطية سليمة .. ثالثا أن الهدف من الضغوط والإغراءات هو تعميق الكراهية بين طرف مستميت على السلطة إلى حد التبلد فيها، وآخر إرتفع سقف حرياته إلى درجة لن يسمح له بالعودة إلى ما كان عليه.. رابعا أن الهدف الآخر هو إستمرار الصراع بين الطرفين دون أن ينتصر طرف على الآخر حتى يستنزف كل منهما الآخر، وتتحول مصر معهما إلى فريسة سهلة المنال. وقد كان الاستنزاف تكتيكا ناجحا إلتزمته أميركا في عدة صراعات سابقة : تسليح المجاهدين الأفغان بالدرجة التي تمكنهم من الصمود لإستنزاف السوفييت وليس الانتصار عليهم تسليح العراقيين والإيرانيين حتى يستنزف كل منهما الآخر تأييد مسلمي البوسنه شفهيا فقط مع فرض حظر السلاح عليهم ، حتى يصل بهم الإستنزاف إلى درجة لا تمكنهم من معارضة المشروح الأمريكي الذي طرح في دايتون لتقسيم بلدهم. واليوم هم يتبعون نفس الأسلوب مع قوى المعارضة المصرية : تأييد شفهي مع ضغوط لينة على السلطة تهدف إلى فتح أبواب الأمل ليس على مصراعيها وإلى الحد الذي يمكن المعارضة من الانتصار بإنجاز التغيير المطلوب ، وإنما فتحات صغيرة تحت السيطرة تكفي لتشجيع المعارضة على الاستمرار في طلب المزيد من سلطة لاتستجيب إلا لما يصدر عن واشنطن ، وذلك حتى يقتنع الجميع بأنه لا تغيير بدون أميركا. وهذا يذكرنا بما فعله الأمريكيون مع شيعة وأكراد العراق عندما شجعهم بوش الأب على التمرد على صدام حسين عام1991 ثم فتح العين الخضراء لصدام ، وتركهم لمصيرهم حتى إقتنعوا بأنه لاتغيير بدون أميركا، ففتحوا العراق لقواتها وشركاتها. [email protected]