إذا كنّا قد تناولنا فى مرتين سابقتين، نموذجًا لشيخ وطني، آثر أن يجهر بالحق فى وجه أعلى السلطات دون خشية سجن واعتقال، وشيخ آخر نافق وغش السلطة مؤثرًا حياة دنيوية تبدو هنية، وقُرب من السلطة، فإن هناك نمطًا آخر، ربما يبدو موقفهم وكأنهم لا يناصرون الحق صراحة، لكن واقع حالهم ينبئ بنموذج وسط يرى ألا يضع يده فى فم الأسد، حيث النتيجة معروفة، وإنما الأفضل ملاينته ومسايسته، لتحقيق ولو بعض المراد. هذا النموذج الوسطى، هو شيخ طبقت شهرته الفكرية والثقافة الآفاق، وأصبح علامة فارقة في عالم الإصلاح والتجديد على طريق الفكر الديني بصفة خاصة... إنه الإمام محمد عبده. فرغم أنه عُد تلميذًا للشيخ جمال الدين الأفغاني، وصاحبه، إلا أن نهجه كان على العكس من نهج الأفغاني، فالأفغاني كان يرى أن السمكة إنما تفسد من رأسها، وأن آفة ما عليه العالم الإسلامي من ضعف ووقوع تحت براثن قوى الهيمنة الغربية إنما يكمن فى قياداتنا السياسية، وألا أمل في البدء بالإصلاح والتجديد والنهضة، إلا بإزالة هذه القيادات، وهذا النهج هو ما يعرف بالنهج "الثوري". لكن محمد عبده رأى أن سلوك هذا النهج مآله الفشل، لأن رجال الفكر لا يقفون على رأس قوة مادية، ومئات وآلاف من الأنصار، يخوضون حربًا ضد الاستبداد، بل هم فرادى، يمسكون بالقلم والورق، ولا قِبل لهم بخوض معارك تستخدم فيها القوة، وأن سلوك مثل هذا الطريق، مآله الفشل المؤكد، ومن ثم لابد من "التحايل" ولو عن طريق طويل... إنه طريق التربية.. العمل على تربية وتعليم عدد من التلامذ على قيم الحق ووسائل الإصلاح ومفاهيم التجديد، وهؤلاء، بدورهم، بعد أن يُنهوا تعلمهم، يقومون بالدور نفسه مع جيل آخر، وهكذا دواليك، فإذا بالمجتمع يتغير ولو ببطء، لكنه يحقق الغرض المنشود. لكن شيخنا نسى أن السلطة السياسية عندما تقوم على البطش والقهر والاستغلال، لن تترك من يعملون ولو على طرق الإصلاح التدريجى، فقوى الأمن تقف متربصة بكل تحرك، لا يسير فى ركاب القاهرين، فضلًا عن أن النظام الذى يعيش استبدادًا وفسادًا، من شأنه أن يملأ المناخ المجتمعي بمفاهيم وأسالب من شأنها ألا تجعل الناس يتقبلون حتى مثل هذا النهج الذى بشر به الشيخ للإصلاح والتجديد. وكان اندلاع الثورة العرابية اختبارًا حقيقيًا لموقف الشيخ محمد عبده، فقد كان رأيه أن مطلب الدستور الذى نادى به عرابي، غير واقعي، على أساس ما تصوره شيخنا من عدم استعداد الشعب له، وصارح الشيخُ، قائدَ الثورة أحمد عرابي بذلك، وفى هذا قال الشيخ، كما روينا فى كتابنا (دور الأزهر فى السياسة المصرية): "لم تكن الثورة من رأيي، وكنت قانعًا بالحصول على الدستور في ظرف خمس سنوات، فلم أوافق على عزل رياض باشا في سبتمبر 1881، وقبل مظاهرة عابدين بعشرة أيام التقيت بعرابي فى دار طلبة عصمت، وكان قد جاء مع عرابي لطيف بك سليم، وكان هناك عدد كبير من الزائرين، فنصحت لعرابي بالاعتدال، وقلت له: إنى أرى أن بلادًا أجنبية ستحتل بلادنا، وأن لعنة الله ستقع على رأس من يكون السبب فى ذلك، فأجابني عرابي أنه يرجو ألا تقع هذه اللعنة عليه". وفى موقف آخر، قال الشيخ: "لقد لبثنا عدة قرون فى انتظار حريتنا فلا يشق علينا أن ننتظر الآن بضعة أشهر". وتلك حجة تتردد طوال تاريخنا الحديث، بل سمعناها تقال فى أيامنا الحالية: إننا صبرنا على الرئيس السابق ثلاثين سنة، فلنصبر الآن، بعد خلعه بعض الوقت!! ثم إن شيخنا لم يكن ليدرك حقيقة الأمر، وهى أن المصريين سواء صبروا أو لم يصبروا، فنية القوى الإمبريالية كانت متجهة بلا تراجع إلى احتلال مصر، وفقًا لمتغيرات متعددة لا مجال لها هنا، كل ما هنالك أن هذه القوى تبحث عن ذريعة.. طبعًا يمكن أن يسارع البعض متسائلًا: فلِم يعطيها الثوار هذه الذريعة؟ ونؤكد نحن من استقرائنا للتاريخ، أنهم كان يمكن لهم أن يخلقوا الذريعة بمؤامرة من هنا أو هناك.. وكان الشيخ مناصرًا لرئيس الوزراء المكروه من الثورة العرابية ألا وهو رياض باشا، ووصل الأمر به أن يعلن مناصرته له من خلال وصفه ما حدث فى ميدان عابدين من "مظاهرة" عسكرية لعرابي لمواجهة الخديوي توفيق، فقال شعرًا: قامت عصابات جند فى مدينتنا لعزل خير رئيس كنت راجيه ذاك الذي أنعش الآمال غيرته وخلص القطر فارتاحت أهاليه قاموا عليه لأمر كان سيدهم يخفيه فى نفسه والله مبديه فنال ما نال وانفضت جموعهم أما النظام فقد دكت مبانيه لكن الشيخ لما بدت ملامح انتصار للثورة فى البداية، راح يغير موقفه بعض الشيء، فيقف بجوار الثوار، خاصة لما وصلت الثورة إلى أعلى درجاتها بتولي محمود سامى البارودي رئاسة الوزارة، إذ يكتب مؤيدًا التنظيم الجديد مؤكدًا تحقيقه لمبدأ الشورى المرتكز على الرأي العام. وعندما تتعرض التجربة المصرية الوليدة في الحكم الدستوري الشوري النيابي لهجمات الخصوم وانتقاداتهم، ويطلقون ضدها نفس الحجج التي أطلقها من قبل الشيخ محمد عبده، تصدى هو نفسه لهؤلاء الخصوم ويسوق ضد حججهم نفس الأدلة التى قدمها العرابيون منذ البداية للدلالة على أهلية البلاد لدستور ومجلس نواب، وتقييد الحكومة بهذه المؤسسات! بل وصل أمر تحمس الشيخ للثورة أنه كان يلقن الضباط يمينًا بالمدافعة عن الثورة مضمونه: "...وحق باقى كتاب الله تعالى أننى أنا فلان، لا أخون وطني، ولا أخون نفسي، ولا أغش أحدًا فى بلادي، وأحافظ على عرضي وعلى ديني، وعلى عرض أهالي بلادي، ما دمت قادرًا على منعه...". لكن الرياح أتت بما لا تشتهيه الأنفس الوطنية مما هو معروف من نكسة الثورة ومجيء الاحتلال البريطانى، ونال شيخنا عقوبة المناصرة للثورة فى شهورها الأخيرة بالنفي خارج مصر بعض الوقت، ثم عاد إليها مرة أخرى. ولقد أثبتت تجربة محمد عبده نفسه، أن نهجه لا ينجح فى مجتمع فاسد مستبَد به، فبعد أن وصل الشيخ إلى موقف مفتى الديار المصرية فى عهد الخديوي عباس حلمي، ولاحت له فرص القام بما كان يأمله من إصلاح للأزهر، إذ به في نهاية المطاف يُطاح به، لأنه تعرض لموقف عدم مسايرة لمطالب للخديوي، لا يستحقها، فضلًا عن المعتاد من ظهور "وسواس خناس" يوسوس في صدور الحكامِ، دسًا للشخ، بدوافع غل وحقد وعجز. لم يتحدث الرجل عن نتيجة تطبيق نهجه مع الخديوي عباس حلمي، لكن مدرسة كاملة من علماء اجتماع وتربية، بعد ذلك بعدة عقود برهنوا على أن التربية التى تتم فى ظلال مجتمع مقهور لابد أن تنتج بشرًا مقهورين، وعبر بعض آخر عن ذلك بقوله إن التعليم فى مجتمع يعاني من تحكم طبقة عليا مستغِلة، يعيد إنتاج الظروف المُفسدة القاهرة التى يُراد استمرارها. بل وقبل هؤلاء علماء المدرسة النقدية المحدثين بعدة عقود، سبقهم "عبد الرحمن الكواكبي" بالتصريح بهذه الحقيقة فى كتيبه الفذ( طبائع الاستبداد)، من أن ما يُربى فى ظل حاكم مستبد إنما هم "أنعام"، لا بشر!!