لا يتردد قياديون في الحزب الوطني الحاكم في مصر، في القول بأن الانتخابات بعد غد الأربعاء، هي بصورتها الحالية خطوة على الطريق نحو نظام تعددي وانتخابات تنافسية كاملة. والمقصود أن هذه الانتخابات وهي الأولى من نوعها، لا تلبي كامل الطموحات، وقد يصح وصفها بأنها تجريبية أو انتقالية وفي ذلك اعتراف بالأهمية الاستثنائية لهذه التجربة، وإقرار من جهة أخرى بأوجه قصورها. ويميل المرء للاعتقاد أن الدعوة لمقاطعة الانتخابات من قبل بعض أطراف المعارضة ليست مقنعة، كما يشك المرء بأن الصواب إلى جانبها، إذ لا يعقل أن يقاطع المصريون أول انتخابات رئاسية تجرى في بلدهم، لمجرد أن هناك ثغرات حتى لو كانت غير هينة. إذ انه مهما كان حجمها، فإن حجم الانتقال من الاستفتاء على مرشح واحد إلى انتخابات ذات طابع تنافسي يظل أكبر وأن يكون الرئيس مرشحا بين المرشحين، وأسوة بغيره من هؤلاء ليس حدثاً عادياً، يمكن إبداء السلبية حياله ومقاطعته. وبطبيعة الحال فإن أية قوة سياسية أو تيار فكري له أن يعتنق الفكرة التي يشاء وأن يجهر بها، غير أن المحك هنا هو في الجدوى المستهدفة من الموقف السياسي، وليس مجرد ان يتمتع بقدر من الوجاهة المبدئية، ذلك ان المقاطعة بما تنطوي عليه من سلبية، من شأنها أن تفاقم من الميل للانفضاض عن الشأن العام، وهي ظاهرة مصرية وغير مصرية. أي ان الدعوة للمقاطعة قد تستقر في أذهان قطاعات من الناس على انها دعوة لمقاطعة السياسة وإدارة الظهر لها، وليست مجرد دعوة للعزوف عن المشاركة في انتخابات ما، وذلك في ظل الجنوح المسبق لدى هؤلاء الناس إلى اللامبالاة والانهماك في الشواغل الحياتية المباشرة. وقد اتضح خطأ هذا الموقف، بل وهامشيته مع اتجاه حزبيين كبيرين للمشاركة. أحدهما حزب جماعة الإخوان المسلمين غير المرخص، لكن المعترف به واقعياً. اما الحزب الثاني فهو “الوفد” الذي ترشح عنه نعمان جمعة، وبصرف النظر عما قيل من اتفاق لعدم المشاركة في الترشيح، إذ ان الأمور بخواتيمها. في الإمكان القول وربما وجب القول، ان مصر كانت تستحق آلية أفضل أو أرقى للعملية التنافسية، من قبيل تيسير شروط الترشيح، وضمان الإشراف القضائي الكامل والمستقل على العملية، وضمان حياد وسائل الإعلام الرسمية المرئية والمسموعة والمقروءة والمكتوبة. غير أنه يجب أن يؤخذ في الحسبان أيضاً، أن الانتقال من ديمقراطية مقيدة إلى ديمقراطية حرة ليس بالأمر الهين، لدى سلطات تشهد مرحلة تحول ديمقراطي إذ ان ذلك يعني التخلي عما لا يحصى من امتيازات وصلاحيات وسلطات دفعة واحدة، وهو ما لم يكن متوقعاً أو منتظراً، إذ لا بد من مسار متعرج وشاق، قبل أن تبلغ العملية غاياتها. وإذا كانت المعارضة وخاصة الأهلية ومنها وغير الحزبية، قد نجحت في الدفع نحو انتخابات تنافسية ووضع قانون الطوارئ في دائرة الضوء، وتغيير قيادات المؤسسات الإعلامية والإعلاء من شأن القضاء، ليس فقط كسلطة مستقلة بل كضامن لنزاهة العمليات الانتخابية (الرئاسية والبرلمانية والمحلية )، فإن السلطات قد حققت بدورها إنجازات استثنائية، في إطلاق مبدأ التنافس على الانتخابات الرئاسية، عبر تعديل المادة 76 من الدستور، وحصر قانون الطوارئ في مكافحة الإرهاب، والاعتراف بسلطة القضاء في الإشراف على الانتخابات كبديل وطني للرقابة الدولية، وصولاً إلى تمكين المرشحين من القيام بحملات انتخابية حرة، لم توفر أحداً من الرموز ولا مرفقا أو جهازاً من مؤسسات الدولة، من النقد الصريح والحاد. وفي جميع الأحوال، ورغم ان نتيجة الانتخابات هي في حكم المحسومة، إلا أن هذه النقلة ستؤدي وجوبا إلى تعزيز المناخ الديمقراطي، إذ ان الخسارة في التنافس، ستمنح الخاسرين موقعاً شرعياً لمن في المعارضة، وكما هو الحال في الديمقراطيات الغربية، حيث لا يستكثر أحد على هؤلاء والقوى السياسية التي يمثلونها الحق في المعارضة المنظمة، حتى لو أدى ذلك إلى تشكيل حكومات “ظل” كما هو الحال في بريطانيا. اما مؤيدو المرشح الفائز، فسوف يكون في وسعهم مراقبة الأداء ومقارنة البرنامج الانتخابي الذي تحقق في ظله الفوز، بما يجري اعتماده وتنفيذه من سياسات، بما يسهم في تحرير الحراك السياسي والارتقاء به، في ظل ذلك المبدأ النبيل الذي بدأ الأخذ به، وهو مبدأ تداول السلطة. ومن هنا تكمن أهمية هذه الانتخابات، ورغم أية ملاحظات وجيهة عليها، فالصحيح الذي تعتريه بعض الأخطاء هو أفضل من السيئ الذي تتخلله بعض أوجه الصحة. ------ صحيفة الخليج الاماراتية في 5 -9 -2005