لدى الشعب المصرى تاريخ طويل مع الفراعنة والمستبدين , ففى التاريخ المصرى -منذ تدوينه- لا تجد إلا فترات قليلة جداً تمتع فيها المصريون بحاكم عادل غير مستبد ولا مُتفرعِن , أحياناً أشعر أنها كانت حالات نادرة جداً فى تاريخنا , حتى وصل الأمر فى لحظات تاريخية ما إلى إدعاء الألوهية أحياناً والقداسة أحياناً أخرى ومرات العصمة من الخطأ , هذا ما قبل ثورة 25 يناير , أما بعدها فأصبحنا نتعامل مع أول رئيس مصرى مدنى منتخب فى تاريخنا بمبدأ اللى اتلسع من الشُربة ينفخ فى الزبادى , فركزنا الميكروسكوب على افعال الرئيس –وهذا جيد- وكل فعل يبدو منه نية الفرعنة أو حتى نشم منه ريحة الفرعنة تقوم الدنيا ولا تقعد لظهور فرعون ما بعد الثورة , فرعون النفخ فى الزبادى . بالطبع توجد أخطاء هنا وهناك , وبعض علامات الإستفهام والتعجب من بعض التصرفات , وكذلك الخوف المبرر من قدرة البيروقراطية المصرية على إنجاب الفراعين على مر الزمان , بل وأحياناً لا يكون الحاكم فرعوناً فى نفسه وطباعه ولكن تحوله هى إلا فرعون بعد فترة من الزمن ,وهذا ما نبه له الأستاذ ((فهمى هويدى)) فى مقالة بعنوان ((فن صناعة الفرعون)) . لكن الوضع فى مصر بعد ثورة 25 يناير قَلَب كثيراً من الأوضاع السياسية والإجتماعية رأساً على عَقِب , وأصبحت فرصة صناعة فرعون آخر مستحيلة جداً لعدة أسباب , على رأسها تَغيُر طبيعة الشعب المصرى وقِصر مدة الرئاسة والإعلام الشرس الذى لا يترك شاردة ولا واردة , وكذلك الطاقم المحيط بالرئيس بما فيهم حزب الرئيس وجماعته . فطبيعة الشعب المصرى تغيرت كثيراً عن ذى قَبل , وتمرد على كل موروثه القديم , وأصبح جريئاً فى المطالبة بحقه وحريته , فالمارد خرج من القُمقُم ونبذ الخوف بلا رجعة , فعموم الشعب ما عادت تهاب الرئيس بل تنتقده وأحياناً تتجاوز فى حقه الإنسانى , فالشعب المصرى أصبح يرى الرئيس فرداً عادياً يعمل عندهم . فمن يصنع الفرعون هو شعبه المستكين الخاضع الذليل , فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ , وقالوا يا فرعون أش فرعنك , فالشعوب بسِكوتِها تصنع فراعينها , أما وأنّ الشعب المصرى لن يسكت مرة أخرى ففرص الفرعنة ذهبت بلا رجعة . يحضرنى موقف هنا عن جرأة الناس على الرئيس وأنه لم يعد مرهوب الجانب كما كان سابقاً , وأصبحت الناس ترمى كل صغيرة وكبيرة وتافهة عليه , فى إحدى الشركات تشاجرت مهندسة وعاملة بالشركة , فما كان من المهندسة إلا أن صبت جام غضبها على الرئيس مرسى لأنه هو من أعطى الحق لهؤلاء أن يعملوا –لأن العاملة حديثة التعيين بعد انتخاب الرئيس- وأن يتكلموا ويناقشوا من هم أعلى منهم تعليمياً . شعب تغير بهذه الطريقة من المستحيل أن يصنع فرعوناً مرة أخرى بعدما ذاق طعم الحرية . كذلك حتى ولو الرئيس فكّر فى الفرعنة , ورغبت نفسه بذلك -والقلوب بيد الله- فلن يستمر طويلا فى منصبه , فلو تفرعن فى فترته الرئاسية الأولى فلن يستمر فترة أخرى–هذا إن سكت عنه الشعب أصلاً- , وبعد ذلك ستُنصب له المحاكمات هذا إن لم يحاكمفى فترة حكمه . ما يجعل الحاكم يستبد ويتفرعن قدرته على الافلات من الحساب والعقاب , وقدرته على الاحتفاظ بمنصبه لأطول فترة ممكنة ولو امتدت حتى وفاته , فما رأينا فى التاريخ كله حاكم مستبد يترك الحكم طواعية أبداً , فهو دائماً مجبر إما بعزل أو ثورة أو مرض أو موت . فالرئيس الذى يعلم أنه بعد ثمان سنوات –على أقصى تقدير- سوف يغادر كرسيه , ومن سيأتى بعده سيفتح كل الملفات السابقة , فلن يفكر إلا أن يترك كرسيه بأقل خسائر ممكنة . أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]