إذا كنت لم تر العفاريت قط فبالتأكيد تعاملت كثيرا مع من يشبههم ويتفوق عليهم ، إنه الإنسان حين يواجه مأزق الحياة، فلا نهاية للحيل التي يبتكرها الإنسان للتغلب على مصاعب الحياة واجتيازه محنها. عندما طلب سيدنا سليمان من الإنس والجن أن يأتوه بعرش ملكة سبأ ،غلب الإنسي الجني وكان الأسرع في تلبية أمر النبي سليمان عليه السلام قال تعالى في سورة النمل "قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ". إرادة الحياة لدى الإنسان أقوى من كل شيء، نسمع ونرى أناسا مروا بمصاعب وتحملوا ظروفا فوق طاقة البشر وواجهوا ضغوطا لا توصف واستطاعوا التحمل ونجحوا في التكيف وربما تسير حياتهم أفضل ممن لم يواجه إبتلاءهم. إذا أردت قصصا لا تنتهي فاقترب من أسر أهالي المعتقلين الذين مرت عليهم سنوات طوال تصل في بعض الأحيان إلى ربع قرن من الزمان، كيف استمرت بهم الحياة وكيف صمدوا ولم ينكسروا؟ ستجد لدى الكثيرين منهم نفوسا تفيض رضا ويقينا، وتوفيقا ورحمة تظلل حياتهم الخاصة بشكل هو أكثر من معجزة. أدخل أي مستشفى وتأمل كيف يمارس المرضى حياتهم رغم أن كفاءة العمليات الحيوية في أجسادهم انخفضت إلى 10% أو أقل، كيف يبتكر كل منهم طرقا تعوض ما يعانيه من عجز وألم. تضيق سبل الحياة أمام الإنسان أحيانا حتى تصبح مثل ثقب الإبرة فيستجمع إرادته ويجد طريقة خاصة به وحده يمر من ثقب الإبرة ويجتاز مشكلته الخاصة ويستعيد طريقه في الحياة. ومن المدهش أن المحن الكبرى تستنفر جهود الإنسان وترقق قلوب الناس من حوله فيتمكن غاليا من اجتيازها أما المشاكل الصغيرة والآلام البسيطة المستمرة فإنها تستنزفه وينهزم أمامها ولا يستطيع لها دفعا، ضربة المطرقة الضخمة على الحجر لا تؤثر فيه، لكن سقوط نقطة مياه بشكل مستمر ولمدة طويلة يفلق الحجر ويفتته. ومن الثابت طبيا أن أسوأ الآثار على الصحة تنجم من الخلافات والمشاحنات الدائمة حتى ولو بدت بسيطة الشقاق بين الزوجي أو العائلي، الجار المزعج، رئيس العمل المتسلط، التعرض المستمر لذلك النكد اليومي يدمر الصحة والأعصاب ويعرض الإنسان لأخطر وأعقد المشاكل الصحية والنفسية. إذا كان من غير الممكن حل تلك المشكلات أو تجنبها أو الابتعاد النهائي عن مصدرها، فإن الحل الذي يلجأ إليه من يعاني منها هو أن يصنع لنفسه حياة موازية تخفف عنه ذلك الأثر المدمر، فينغمس في ممارسة القراءة، الرياضة، تعلم اللغات، المساهمة في بعض الأعمال الخيرية، التفرغ لاكتشاف أو ابتكار أو اختراع علمي قد يكون له شأن في مسيرة الحياة البشرية. كثير من العلماء والأدباء والمفكرين والمشاهير في مختلف المجالات كانت لديهم معاناتهم الخاصة، وكانت ظروفهم صعبة ضاغطة فاعتبروا ذلك حافزا للاستغراق في اهتماماتهم المبدعة واستطاعوا إنجاز أعمال خلدت أسماءهم في ذاكرة التاريخ واستوعبت طاقتهم السلبية فيما يفيد. لا أحد يعلم لو كانت الحياة تجرى بهم رخوة هانئة هل كانوا سيبدعون؟. أحيانا تدفع الضغوط غير المحتملة الإنسان لأن يشحذ طاقته ويحقق المعجزات حتى لو أستدعى الأمر أن يمر من ثقب الإبرة.