في عام 95 من القرن المنصرم وفي نفس التوقيت تحديدًا كنّا نزلاء عنبر (ب) بسجن استقبال طره، وكانت الزيارة ممنوعة منذ فترة لا لسبب منطقي معقول سوي التضيق علي المعتقلين رغبة من النظام الحاكم وقتذاك في كسر إرادتهم، وكانت الغرف مكدّسة حتى كان أحد الظرفاء يعلّق علي هذا الزحام بقوله؛ ينام أحدنا ودعاؤه حين ذلك؛ باسمك اللهم حشرت جنبي وباسمك أنزعه،!!!! وقد حدث مرة أن قام أحد الإخوة للذهاب إلي دورة المياه الملاصقة لمكان النوم والمعيشة تلبية لنداء الطبيعة، وحين عاد مرة أخرى بعد قضاء الحاجة لم يجد مكان نومه حيث التصقت أجساد المجاورين له عن يمين وعن شمال بعضها ببعض فقال متهكمًا؛ يا جماعة كان هنا مكان لفأر بينكم أين ذهب؟!!! نعم لقد كانت الغرف في تلك الأيام الخوالي تحديدًا كما صورها العلامة القرضاوي في نونيته الشهيرة.. أعرفت ما قاسيت في زنزانة = كانت هي القبر الذي يئويني؟! لا بل ظلمتُ القبر، فهو لذي التُّقى = روض، وتلك جحيم أهل الدينِ! هي في الشتاء وبرده ثلاجة = هي في هجير الصيف مثل أتونِ نُلقى ثمانيةً بها أو سبعة = متداخلين كعلبة السردينِ هي منتدانا وهي غرفة نومنا = وهي البوفيه وحجرة الصالونِ هي مسجد لصلاتنا ودعائنا = هي ساحة للعب والتمرينِ وهي الكنيف وللضرورة حكمها = ما الذنب إلا ذنب من سجنوني هي كل ما لي في الحياة فلم يعد = في الكون ما أرجوه أو يرجوني في هذه الأيام وقد أقبل عيد الأضحى المبارك والحالة هذه- وقد طلب مني الأخ المسئول عن توزيع الخطباء علي الغرف وهو الشيخ/ محمد خفاجي وهو من أخوة الدقهلية المقدمين وقد شرط عليّ شرطًا وهو البعد عن البكائيات والابتعاد قدر الإمكان عن لمس الوتر الحساس عند الإخوة وخاصة أنّ عددًا غير قليل منهم قد جئ به إلي المعتقل كرهينة ليس إلاّ بمعني أنّه ليس له في العير ولا في النفير، وقد قبلت الشرط ووعدت الأخ أن لا أقترب من هذه المنطقة بالذات باعتبار أنّ هذا عيد والسنّة فيه هي اللهو المباح، والأفراح والليالي الملاح، وإنّ كنت لابدّ فاعلاً فلا بأس من التعريج السريع علي مآسينا التي نعيشها وتشاركنا فيها أسرنا البائسة المنكوبة، ولكن فليكن ذلك في خطبة الجمعة لا العيد!!! وجاء العيد، ووضع الإخوة عددًا من البطاطين بعضها فوق بعض كمنبر وبدأت خطبة العيد بالحمد والتكبير كما جري مألوف العادة من الخطباء والوعاظ، وما هي إلا لحظات حتى أفلت الزمام منّي،وتبخرّ الوعد الذي وعدت به الأخ المسئول "وعادت ريمة لعادتها القديمة" كما يقول المثل البلدي، فلم يمض على بداية الخطبة إلاّ دقيقتان وقد وجدتني أقول مناشدًا الحجيج: يا حجيج بيت الله الحرام، أيّها النازحون اليوم من عرفات، يا أيّها الركب الكرام عند بيت الله الحرام هل تذكرون أنّ لكم إخواناً قد حبسهم العذر، وقيدهم الأسر، وأكلت جدران السجون الأسمنتيّة من عافيتهم، واستنزف الأسر المهين زهرة صباهم، واصطلحت جملة من الأمراض المتخاصمة علي البقيّة الباقية من صحتهم حتى جعلتها كأعجاز نخل خاوية!! يا حجيج بيت الله الحرام هل تذكرون أنّ لإخوانكم هؤلاء ذريّة ضعفاء حُرموا اليوم فرحة العيد؟ وحالت بينهم وبين والديهم هذه الأسوار العالية، وتلك الأبواب الحديدية الموصدة؛ مال الزنازن لاشمس ولاريحٌ. ما بالها ذهلت عنها المفاتيح ما بالها قد تمطّي في عفونتها. حقدٌ كأنّ نواياه التماسيح وقد مضي منّي الكلام علي هذا النسق وعندها وقع المحذور وما لم يكن لنا في الحسبان، فقد انفجر الحاضرون بالبكاء والعويل، وارتفعت الأصوات بالنحيب والصراخ الهستيري وعادت أغاني العرس رجع نواحِ، وقد مشت هذه العبارات في صدور الحضور يومها مشي النعىّ في دار عرسِ، وانتهت خطبة العيد على هذا المشهد التراجيدي الحزين، ونظر إليّ الأخ محمد خفاجي نظرة تحمل من المعاني الكثير والكثير وقد توعدني بإيقافي عن الخطابة فترة ما كنوع من العقوبة علي ما كان منّي من عدم الالتزام بما اتفقنا عليه من البعد عن ما يذكر الناس بأولادهم وزوجاتهم وقد كان!!! أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]