أثارت كارثة مسرح بني سويف وما ترتب عليها من فاجعة إنسانية أزمة سياسية بالنسبة إلي مفهوم المسئولية السياسية لوزير الثقافة، فثار عدد غير قليل من المثقفين وأصدروا بيانا بضرورة إقالة الوزير بل ومحاكمته، ولم يلبث الوزير، بعدما استشعر خطورة الموقف، أن وضع استقالته تحت تصرف السيد رئيس الجمهورية إعرابا عن شعوره بالمسئولية الوزارية. وهنا تقدم عدد كبير آخر من المثقفين والمسئولين عن قطاع الثقافة بتقديم التماس الي السيد رئيس الجمهورية بعدم قبول استقالة الوزير لانجازاته المتعددة في ميادين الثقافة، فضلا عن أن ما وقع لم يكن للوزير دخل فيه وبالتالي لا مسئولية عليه. وكما هي العادة خرج أديبنا الكبير الأستاذ نجيب محفوظ بصوت العقل والحكمة فأعرب في بيان له عن ترحيبه بخطوة الوزير في تحمل المسئولية الوزارية وأن هذه الخطوة قد أعادت الي الأذهان التقاليد السياسية العريقة التي كنا نعرفها في مصر في ممارسة الديمقراطية. واستحضر الأديب الكبير في هذا الصدد واقعة استقالة محمود باشا شكري مدير عام السكك الحديدية وكان هذا المنصب من أهم مناصب الدولة آنذاك حين تسبب إهمال أحد الخفراء في تلك المصلحة عن وقوع حادثة، قائلا إذا قصر موظف بالسكك الحديدية في عمله ولو كان خفيرا فأنا مسئول. ولم يفت الأديب الكبير أن يؤكد هنا أننا بصدد مسئولية الوزير السياسية وليست مسئوليته الجنائية، كما نوه بأن هذا الإهمال الجسيم الذي وقع في قطاع قصور الثقافة لا ينبغي أن ينسينا الانجازات الكبيرة التي تحققت للثقافة والفنون في عهد فاروق حسني، وفي النهاية أصدر السيد رئيس الجمهورية تعليماته بتكليف السيد فاروق حسني بالاستمرار في عمله. وهكذا يتضح الي أي حد تتعدد الآراء وتختلف وبين المثقفين أنفسهم حول مفهوم المسئولية السياسية فهناك من رأي أن مسئولية وزير الثقافة متحققة وعليه الاستقالة، بل هناك من طالب بمحاكمته، في حين رأي البعض الآخر أنه لا مسئولية عليه لأنه لم يخطئ شخصيا ولم تثبت عليه أية مخالفة أدت الي هذه الكارثة، وثالث أو رابع يري أن انجازات الوزير في الماضي تحول دون مساءلته سياسيا، وأخيرا حسم الأمر بتعليمات رئاسية. فلماذا هذا الاضطراب؟ وهذا التعارض الشديد في الحكم علي الأشياء؟ لا شك ان بعدنا عن الممارسات الديمقراطية فترة طويلة قد جعلت رؤيتنا مضطربة خاصة فيما يتعلق بمفهوم مسئولية الوزير السياسية، فالمسألة ترجع في نهاية الأمر الي طبيعة النظام السياسي القائم والدور السياسي لكل من الحاكم والمحكوم، ففي نظم الحكم الشمولي لا رأي كبير وفعال للمواطنين، والسياسي مسئول أساسا وربما فقط أمام رئيسه. أما في النظم الديمقراطية فالوزير والسياسي بصفة عامة مسئول أولا أمام مواطنيه، ومسئوليته هنا مسئولية سياسية، وهي ليست إدانة كما أنه لا يصبح معها بالضرورة مذنبا. كيف؟ لعل نقطة البدء هي أهمية التمييز بين مفهوم العمل السياسي في كل من النظامين الشمولي أو التسلطي من ناحية، والديمقراطي والليبرالي من ناحية أخري، العمل السياسي في النظام الأول يستند الي السلطة والتي تجد مصدرها خارج وفوق إرادة الشعوب. فقد يكون ذلك مصدرا إلهيا كما كان الأمر عند الفراعنة الذين اعتقدوا انهم أبناء الإله رع أو آمون، أو حتي عند بعض الخلفاء المسلمين الذين كانوا يرددون أنهم ظل الله في الأرض، أو معظم الملكيات الأوروبية في القرون الوسطي وحتي قيام الثروات الكبري والتي كانت تعتقد في حق التفوض الإلهي فهؤلاء جميعا لا يشعرون بمسئولية تجاه البشر. لا تقتصر النظم الشمولية والاستبدادية علي تلك التي تعتمد علي أشكال التفويض الإلهي، بل قد يكون مصدرها عقائد دينية أو أيديولوجية أو سياسية، بل وقد يكون مصدر هذه السلطة هو مجرد القوة العسكرية أو التفوق التكنولوجي. فالسلطة الاستبدادية تجد مصدرها خارج إرادة الشعب، وفي جميع هذه النظم يري المسئول أنه مسئول فقط أمام صاحب السلطة، ولا شأن له ولا اهتمام بآراء الرعية. وجاءت النظم الديمقراطية بانقلاب شامل المفاهيم، فهي تقوم علي تصور مختلف تماما للعمل السياسي، فالعمل السياسي مازال شكلا من أشكال ممارسة السلطة، ولكن مصدر السلطة هنا هو الشعب، أي مجموع آراء هؤلاء الأفراد الذين يكونون الجماعة، فعلاقة الحاكم بشعبه ليست علاقة تسلط وإنما هي نتيجة تعاهد وتعاقد، وهو يستمد سلطته من تفويض الشعب فيما يشبه العقد بين طرفين( العقد الاجتماعي) ومن هنا فإن مسئولية العمل السياسي في النظم الديمقراطية الليبرالية هي في الالتزام بالشروط والتعاهدات التي تم بها التعاهد أو التعاقد فإذا أخل المسئول بهذه الشروط تكون مسئوليته أمام الشعب ومن هنا تصبح المسئولية السياسية في النظم الديمقراطية الليبرالية مدي الوفاء أو الإخلاء بما قطعه الحاكم علي نفسه من التزامات سياسية أمام المواطنين مقابل الحصول علي أصواتهم، فسلطات الحاكم السياسية ليست حقوقا أو امتيازات مقررة له، وإنما هي وسائل لكي يتمكن من تنفيذ الالتزامات التي قطعها علي نفسه، واستخدام هذه السلطات رهن بتحقيق الأهداف المرجوة من ورائها. وهكذا يتضح أن جوهر العمل السياسي في النظم الديمقراطية هو المسئولية السياسية، فما معني ذلك؟ المقصود بذلك هو أن رجل السياسة قد فوض في سلطاته من الشعب تحت شروط والتزامات معينة قطعها علي نفسه، وعليه أن يوفي بهذه الشروط والالتزامات، وإلا فإنه مخل ويتحمل المسئولية السياسية، ولكن متي يمكن القول بأن رجل السياسة قد أوفي التزاماته وبالتالي تنتفي مسئوليته، ومتي يمكن القول بأنه علي العكس، لم يوف هذه الالتزامات وبالتالي تقوم مسئوليته السياسية؟ يفرق رجال القانون بين المسئولية التعاقدية عند الإخلال بشروط العقد، وبين المسئولية التقصيرية القائمة علي الخطأ، وقد تصل جسامة الخطأ في هذه الحالة إلي أن تصبح هذه المسئولية جنائية يصبح مرتكبها مجرما ومذنبا في نظر القانون، فماذا عن المسئولية السياسية ؟ المسئولية السياسية هي نوع من المسئولية التعاقدية بين الحاكم والمحكومين وبذلك لا يختلف الالتزام السياسي عن أية التزامات أخري، ففي جميع الأحوال هناك ضرورة للوفاء بالتعهدات علي نحو سليم ومع حسن النية وعدم محاولة الغش. ويعرف القانون تفرقة هامة بين نوعين من الالتزامات التعاقدية هناك ما يعرف بالالتزام ببذل العناية المطلوبة، وهناك ما يعرف بالالتزام بتحقيق نتيجة معني الإخلال بتنفيذ الالتزام في الحالتين ففي حالة الالتزام ببذل العناية المطلوب هو أن يبذل المدين الجهد اللازم والضروري والذي يتفق مع المتعارف عليه لأداء الخدمة وذلك لضمان تحقيق النتيجة المرجوة. وليس الأمر كذلك مع النوع الآخر من الالتزامات، وهي ما يعرف بالالتزام بنتيجة فإن التزام المدين هنا يقتصر علي بذل العناية الكافية بل لابد أن يحقق النتيجة المتفق عليها. وهنا يبرز السؤال، هل التزام رجل السياسة أمام المواطنين هو التزام ببذل عناية أم أنه التزام بتحقيق نتيجة؟ هذا سؤال هام تتوقف عليه مدي مسئولية السياسي. إن مسئوليات إدارة الحكم هي أخطر ما يضبط المجتمعات، وبالتالي فهي ليست عملا من البر الذي يمكن أن يترك لأصحاب النوايا الطيبة، أو النوازع الشريفة، وإنما وهي تصون أعراض الناس وأموالهم لا يجب أن تعهد إلا لمن هو قادر علي تحقيق نتائج متفق عليها، فالأهداف السياسية تدور بشكل عام حول حفظ الأمن وتوفير الاستقرار والسلام وإقامة العدل وحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم وضمان التقدم الاقتصادي وتوفير الفرص للجميع بلا تميز وحماية مستقبل الأجيال القادمة، وهكذا ولا يمكن أن تستمر المجتمعات دون توافر هذه الخدمات فمسئوليات السياسة لازمة لوجود المجتمعات واستمرارها ولذلك فإن السلطة السياسية عن ضرورة توفير هذه الخدمات فعلا وليس مجرد السعي لذلك فالتزام السلطة هو التزام بنتيجة وليس فقط ببذل العناية الواجبة فلا يكفي لوفاء رجل السياسة بالتزامه أن يبذل كافة الجهد في هذه الميادين إذا لم تتحقق النتائج المقصودة فهنا لا يعفي السياسي من المسئولية حسن نيته أو نبل قصده فالسياسة نتائج، وليست نوايا أو مقاصد، وإذا لم تتحقق النتائج المتفق عليها تقع المسئولية، ولو لم يقع أي خطأ من المسئول. والمسئولية السياسية ليست إدانة أو حكما علي المذنب بسبب خطأ أو تقصير، وإنما المسئولية السياسية هي إعلان بأن النتائج المتفق عليها لم تتحقق، أو لم تتحقق علي الوجه المنشود.. المسئولية السياسية إخلال بشروط التعاقد. وفضلا عن ذلك فإن المسئولية السياسية هي أيضا إعلان من المسئول نفسه عن مستوي الأداء الذي يقبله علي نفسه، فالمسئولية السياسية ليست فقط حقا للمجتمع بأن هناك إخلالا بحقوقه، ولكنها أيضا حق للمسئول لكي يعلن عن عدم رضاه وأسفه لما حدث واعتذاره عنه وهو موقف لا يخلو من كرامة واعتزاز من جانب المسئول نفسه فضلا عن احترامه للآخرين فقبول المسئولية السياسية ليس عيبا في السياسي أو تقصيرا من جانبه، ولكنه اعتراف منه بأن للشعب حقا في أداء أفضل، وأن السياسي هو أول ما يعترف بذلك وهذا ما يفعله المسئولون في الدول الديمقراطية وتلك الدول التي تعتز بأبناء شعوبنا. يبدو مما تقدم أن تعدد وجهات نظر حول مسئولية وزير الثقافة إنما ترجع إلي عدم استقرار المفاهيم الديمقراطية الأصيلة فما زالت هناك روح أو نفس تسلطية في الأجواء تري في تحمل المسئولية تخفيضا من قيمة السلطة وإخضاعها لأهواء العامة، وهو أمر لا يليق بهيبة السلطة وهناك من يعتقد أن الحسنات يذهبن السيئات فكيف يتحمل وزير مسئولية حادث بشع صحيح ولكن له إنجازات أخري كثيرة تخفف أو ترفع عنه المسئولية. السياسة هي ميدان النتائج ونظرتها دائما إلي المستقبل، السياسة ليست مجال النوازع الطيبة ومكافأة التاريخ الماضي، وقد كان شيخنا نجيب محفوظ علي حق في تعليقه علي استقالة الوزير.. وكم هي حلوة الديمقراطية. والله أعلم. ------------------------------------------------ صحيفة الاهرام اليومية