سبق وأن حذرت مما سميته "الطهر الدينى" أو "الطهر السياسى".. لأنه ينزل الأشخاص والجماعات السياسية أو الدينية منزلة "القداسة" و"العصمة".. وربما مكانة تعدل منزلة "الوحى" و"النبوة".. والتى قد تفضى فى النهاية إلى شكل من أشكال "الوثنية السياسية" و"عبادة" الجماعات والزعامات وتحويل الولاء من "الحق" إلى "الباطل".. ومن "الوطن" إلى الأطر التنظيمية الطائفية أو المدنية. ونحن صغار أيام كنا نلهو ونلعب فى حوارى القرية.. كنا نتحدى بعضنا البعض بمقولة شهيرة: "ولو كان أبوك جمال عبد الناصر.. ففعل كذا أو كذا".. وغيرها مثل "عبد الناصر يمكنه عبور البحر بخطوة واحدة.. وهد جدران بيوت القرية بظفر إصبع يده الصغير".. وأخريات كانت تنزل الرئيس الأسبق منزلة "أسطورية" "فوق البشر"، تقربه فى الوعى العام إلى ما يشبه "الإله".. وذلك فى الوقت الذى كانت فيه البلد كلها تتخبط فى عار الهزيمة وفضائحنا العسكرية لأسباب لا يمكن بحال إعفاء ناصر رحمه الله من مسؤوليتها!! المسألة هنا لا تتعلق فقط ب "الناصرية" التى ما زالت تعيش منطق "الطهر السياسى" كلما ذكر عبد الناصر بوصفه معصومًا من الخطأ.. و"آخر أنبياء" العدالة الاجتماعية.. وإنما تتعلق أيضًا بمعايير التعاطى مع الحركات السياسية التى جاءت بعد الثورة من داخل الجماعات الإسلامية. ظل المحبون ل "السلفية" ول"الإخوان".. عند نظرة "الطهر الدينى" إليهما.. على النحو الذى أفضى بلا وعى إلى تكوين ضمير تنظيمى، يوحد بينهما وبين الإسلام.. فيما يشبه مقولة لويس الرابع عشر "أنا الدولة".. وبشكل يجعل أى نقد إليهما حتى ولو كان حانيًا رقيقًا "نقدًا للإسلام".. ويضع كل ناقد لهما فى صفوف "أعداء الله".. وهى النظرة التى تستمد وعيها من منطق "الطهر الدينى" باعتبار أن كل "داعية" هو بالضرورة "معصوم".. و"ملائكى" لا يخطئ أبدًا.. وليس عرضة ل"الفتن".. رغم أن الأخيرة كانت "الهاجس" الذى يقلق الصالحين عبر كل العصور.. والخوف من "سوء الخاتمة" خشية "الفتن". الإسراف والمبالغة فى اعتقاد "الطهر الدينى" أدى إلى صدمة فى العواطف العامة، بعد حادثتى السلفيين: "البلكيمى" و"ونيس".. الأول اتهم ب"الكذب" والثانى اتهم فى "أخلاقه".. وهما الحادثتان اللتان ما انفك الخصوم السياسيون يتخذونهما أهم وثيقة على "أدعياء" التدين، والذين يستغلون الدين فى استدرار أصوات الناس الانتخابية. وفى تقديرى أن أزمة حزب "النور" حاليًا.. تأتى فى هذا السياق.. حتى القوى المدنية أو العلمانية التى تجيد التوظيف الدعائى لمثل هذه المحن مصدومة فى "طلاب الآخرة".. وكيف تحولوا قبل مرور عام من التجربة إلى "طلاب دنيا" وإلى "طلاب سلطة"!! والحال أن ما يحدث داخل الحزب، بكل المقاييس الموضوعية هو "خلاف سياسى" طبيعى وليس دينيًا، وليس كما يتردد بين التفسير الدينى المتشدد.. واستحقاقات الديمقراطية بعد الثورة.. لأن الحزب لم يكن يومًا ما مكانًا ل"الملائكة" والأنبياء "المعصومين".. وإنما من بشر وسياسيين يصيبون ويخطئون.. فلا داعى للمبالغة والتصيد فى المياه العكرة. [email protected]