كان دافعي إلى سرد فظائع نظام حكم الأسد في سوريا في المقالين السابقين هو تقديم تفسير لما يجري الآن. فقد صدر تقرير ديتليف ميليس ، المحقق الدولي في جريمة إغتيال رفيق الحريري ، وفيه ما فيه من توريط لسوريا. وقبل صدور التقرير بيوم صرحت كوندوليزا رايس بما معناه أن أمريكا لن تتردد في القيام بعمل عسكري ضد سوريا إذا لم تخضع للأجندة السياسية الأمريكية في العراق ولبنان وفلسطين ، كما إستبقت الولاياتالمتحدةوفرنسا إعلان نتائج التقرير ببدء ما وصف بأنه أقوى تحرك دولي ضد دمشق حيث تستعدان لطرح مشروع قرار في مجلس الأمن ضد سوريا. هذه الحلقات الثلاث هي الأخيرة في سلسلة من الضغوط بدأت بقرار مجلس الأمن 1559 الذي دشن تعاون فرنسا مع أميركا ، والذي صدر كعقاب على فرض سوريا تعديل الدستور اللبناني لتمكين الرئيس إميل لحود من تجديد رئاسته إلى فترة أخرى. وكنت قد كتبت منذ أكثر من عام في جريدة (آفاق عربية) إحتجاجا على تعديل الدستور اللبناني على مقاس لحود كما جرى في سوريا على مقاس بشار، وقلت أن الدساتير فوق الحكام وأنها ليست لعبة. كما تنبأت بأن الغرب لن يسكت على هذه الحماقة ، وأنه سيأتي اليوم الذي تندم فيه سوريا بشدة على ما فعلته. غير أن ما جرى منذ قرار 1559 إلى تقرير ميليس كان أسوا بكثير مما توقعت. ما أريد قوله هو أن قوى الغرب لا تتمكن من رقابنا إلا بسبب حماقاتنا : حماقات الحكام وإحتقارهم لشعوبهم وإستخفافهم بكرامة وحقوق مواطنيهم ، و حماقات جماعات التطرف واليأس المتلفحة بالدين ، وحماقات الشعوب التي هي إما مستسلمة لهذا الوضع وقابلة بالاستخفاف بها ، أو أنها تساهم بفعالية في مفاقمة الوضع بالإصرار على خلق فرعون في كل منصب وتأليه زعيم وحاكم فرد في كل مؤسسة ، والتفنن في اختلاق الذرائع لتبرير الفرعنة. حماقة الفرعنة تلك هي أهم أسباب إحتقار مصر والعرب على المستوى الدولي ، فكيف تُحترم أمة تعطي إنطباعا بأن استمرارها مرهون بقلة من الأفراد ، وأن شعوبها ليست أكثر من قطيع من البهائم لا يوجد فيه من يستطيع أن يتحمل المسئولية في أي موقع لأن الزعيم "الملهم .. الحكيم .. إلخ" هو فقط القادر على ذلك. في الآية القرآنية (وإتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) يحذر الله تعالى عامة المسلمين من السكوت على طواغيت الظلم والفساد لأن الفتنة عندما تقع ، تعم الجميع .. ليس فقط الظالمين ، وإنما أيضا هؤلاء الذين سكتوا على الظلم ، وهادنوا الفساد وقبلوا بالاستخفاف بعقولهم كما فعلت كثرة من كتاب الأعمدة في الصحف القومية إزاء التعديل الخبيث للمادة 76 الذي إحتال به نظام الحكم على شعب مصر. بتعبير آخر، يمكن تلخيص مصيبة العرب وتفسيرالحضيض الذي إستقرت إليه أوضاع العرب والمسلمين عامة ، وسوريا خاصة في المقولة الشهيرة : "لكل داء دواء إلا الحماقة أعيت من يداويها". ولأن الحمقى العرب "على قفا من يشيل" ، فلا يوجد أمام صهاينة أميركا وإسرائيل أسهل من وضع الخطط والأجندات وانتظار أو استدراج حماقة من حاكم أو جماعة ، واستخدامها كذريعة لإطلاق الأجندة أو المخطط الموضوع . وهكذا وصلت سوريا إلى الوضع الذي أصبح عليها أن تختار بين خيارين : خيار صدام وخيار القذافي. ولا يعني خيار صدام أن أميركا تنوي غزو سوريا . فالأمريكيون ليس لديهم ما يكفي من الجنود لغزو دولة أخرى ، والشعب الأمريكي لن يقبل بمغامرة عسكرية أخرى . كما أن سوريا لا يوجد بها ثروة تغري بالغزو لنهبها. وإنما هو تهويش لنظام فاسد يعلم الأمريكيون أنه بقليل من الضغط سينحاز إلى خيار القذافي ويخلع ثيابه قطعة قطعة حتى يقف عاريا بلا ورقة توت تسترعورته كما فعل العقيد الليبي. [email protected]