ما زال الخطاب الثقافي العربي يعاني من قصوره المعتاد في تشخيص حالة العقل العربي و تشريحه بطريقة علمية و منهجية للتعرف على خارطة بنيته الفكرية والمعرفية و تحديد مناطق الضعف و القوة فيه ، و إعادة ترتيب أولوياته للخروج من حالة الجمود التي أعاقته عن مواكبة مسيرة الحضارة العالمية منذ عقود كثيرة . والخطاب الثقافي الذي نقصده هو ذلك الخطاب الذي يقدمه الكتاب و المبدعون العرب من مقالات صحفية و كتابات إبداعية و ندوات و حوارات تليفزيونية ، فالذي يحدث الآن هو إعادة إنتاج للقضايا القديمة بطرق أكثر إثارة ، بسبب الثورة الإعلامية الحديثة ودخول وسائل التواصل الاجتماعي إلى المشهد ، وانضمام كل الشرائح المجتمعية إلى المشاركة بآرائهم في تلك القضايا . لم يعد الأمر قاصرا على (المثقفين) أو ( ( النخبة) فقط، بل أصبح الأمر متاحا للجميع ، وهو ما أدى إلى غياب الحوار العلمي الجاد ، فقد أصبحت الغوغائية والضجيج و الفوضى هي أبرز سمات الخطاب الثقافي المعاصر ، أما المحتوى أو المضمون المعرفي الذي يتضمنه ذلك الخطاب ، فهو أمر لا يدعو إلى التفاؤل ، وكأن هناك (جهات ما ) تصر إلى أن يظل المشهد بتلك السمات السلبية ، فلا تكاد تختفي (موجة) أو (هوجة ) حتى تطفو موجة أخرى ، وهكذا يظل العقل العربي أسيرا لهذا العبث الفكري الذي لا نجني منه سوى استنفاد الوقت و الجهد ، بالإضافة إلى إنتاج أجيال جديدة لا تؤمن بثقافة الحوار ولا الاختلاف الفكري . و بدلا من أن يكون الطرح الثقافي على قدر المسؤولية، يطل علينا بعضهم (باستعلاء ثقافي أجوف) لكي يهين بعض الرموز التاريخية بلا منهج علمي موضوعي ودون و معرفة بالظرف و السياق التاريخي فتتحول الساحة إلى (معارك فارغة) بين الأيدلوجيات المختلفة ، والنتيجة هي مزيد من الأصفار في رصيد الجميع ! وبعد أن تهدأ الساحة قليلا ، تطرح قضية أخرى مثل الهجوم على البخاري و الدعوة إلى خلع الحجاب ، حرية ممارسة الشذوذ الجنسي والتشكيك في الثوابت التاريخية كقضية القدس و المسجد الأقصى ، وغير ذلك من القضايا ( والاشتغالات) و (الفقاعات الفكرية). و كذلك الحال فيما يتعلق بالخطاب الإبداعي العربي و خصوصا الخطاب السردي من رواية وقصة قصيرة ، فالروايات الصادرة في كثير من البلدان العربية تركز على القضايا الذاتية و الخاصة كحرية الجسد و التعري وممارسة الجنس و انتهاك المقدس حتى وصفتها بعض الوكالات العالمية بأنها Taboo breaking novels أي روايات انتهاك المقدسات ، دون أن تتعرض للقضايا الكبرى مثل التخلف الحضاري و غياب قيم الحرية والديمقراطية و الاستقطاب المجتمعي . لقد كانت الأزمة التي عانى منها المثقفون العرب في أواخر القرن التاسع عشر وطيلة القرن العشرين هي هيمنة ذلك الخطاب الثقافي المتشنج بدعوى الاستنارة التي حصرها البعض في (حرية المرأة) و ( المرأة الجديدة) ، وهي أمور شخصية لا علاقة لها بمنظومة البناء الفكري و المعرفي للأمم الذي لا يركز على تلك النقاط الخلافية بل يهتم بالمساحات المشتركة بين الأفراد بعيدا عن تلك التفاصيل الجوفاء وذلك الهامش الضيق.إن المتابع للمشهد الإبداعي العربي يشعر بالإحباط نتيجة لغياب القضايا الحقيقية و المركزية لإعادة الثقة والوعي إلى لعقل العربي الذي ما زال يتخبط في طرح مسائل الهوية بهذا الشكل العبثي ، و كأن أزمة العلمانيين هي حرية التقبيل في الطريق العام ، وأزمة الإسلاميين هي الحجاب ، و الأمر أكبر من ذلك بكثير ، الأمر يتعلق بأمة تم تغييبها عن الإبداع العلمي و المعرفي حتى صارت عبئا على هذا العالم .