كان لدي ما يغري بالكتابة والتعليق هذا الأسبوع، وكان عن رد الفعل البارد من جانب عائلة مبارك لحصول رئيس وكالة الطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة المصري، محمد البرادعي علي جائزة نوبل، وانعكاس ذلك علي أجهزة الصحافة والإعلام الرسمية، وذلك لأنها جاءت علي غير توقع العائلة ، التي كانت تري أن سوزان مبارك أحق منه بالجائزة. وعندما سمعت هذا من مصدر مطلع علي شؤون العائلة الحاكمة في مصر كان تعليقي التلقائي إن لم يكن ذلك هو الغباء والاستكبار بعينه فإنه الجنون المؤكد، من فرط تصورهم أن الأمور قد دانت لهم. والجائزة وإن حملت شبهات سياسية، وبعض التأثير الصهيوني، إلا أنه لم يسجل عليها أنها قدمت ثوابا علي فساد أو استبداد، تراجع إغراء هذا الموضوع أمام موضوع آخر هو انطباعات خرجت بها عن واقع الجيل الثاني من المهاجرين العرب في بريطانيا، زادت من قلق أمثالنا من المخضرمين الذين استقروا في الغرب علي كبر. الانطباعات تكونت مع تناول موضوع الدياسبورا أو الشتات العربي في المهجر، وبدأت لغة التناول وهي تميل إلي الموضوعية، وانتهت إلي لغة مستشرق تختلف عن لغة عربي صاحب شأن.. كانت المحاضرة باللغة الانكليزية، لإلقاء ضوء علي الشتات العربي في الغرب، وفرض سؤال الهوية وضعف تأثير الوجود العربي في الرأي العام الغربي نفسه، إذا ما قورن بالتأثير الصهيوني، علي جو المحاضرة والحوار، وكان مصدر الإثارة هو وقوع الغالبية في أسر التنميط والقولبة، شبه الثابت، المنتشر عن معني العربي، والذي شكل الوجدان العام الغربي، علي مدي قرون طالت عن الحد، ولم يفلح معها تصحيح أو تصليح!. ووصف ما طرحه الشاب بأنه استشراقي ، إذا جاز التعبير، جاء عمدا، لأن الخلاف بين الاستشراق والتغريب يقول بأن الأول عمل يمارسه الباحث الغربي المعني بشؤون الشرق، خاصة الشرق العربي والإسلامي، أما التغريب فهو حالة يعيشها ابناء بلاد الشرق، وهم يتبنون ويستعيرون الأنماط والمضامين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الغربية في حياتهم، ويقيمون علي أساسها علاقاتهم مع الناس والمجتمع.. فيبدون مقلدين وليسوا مبدعين، وناقلين وليسوا هاضمين، فالحياة الإنسانية تتطور وتنتصر بالهضم وتتراجع وتنتكس بالنقل، خاصة وأن هناك مشتركا عاما مشاعا لكل البشر.. تتعدد مجالاته وتتنوع.. في العلوم والتقانة، وخبرات الاحتكاك الإيجابي، والتجارب التاريخية المشتركة، وانعكاس إيجابيات الحضارات والثقافات الصاعدة علي الحضارات والثقافات الأقل صعودا، بشكل يصنع التلاقح اللازم لتخصيب الثقافات والحضارات، ويعطي وجها إنسانيا، كثيرا ما اختفي وطمر تحت ركام الأطماع والمصالح والتطلعات الإمبراطورية والتوسعية، و المشترك العام يختلف عن النتاج الخاص، الذي يميز مجتمع عن آخر، ويفرق بين ثقافة وأخري. كان الرأي واجب التبني معاكسا للرأي الذي كانت له الغلبة، وطرح من خلال إعادة قراءة الخريطة السياسية والجغرافية للمنطقة العربية، والتعرف علي الأدوار التاريخية لها وفيها. وكشفت القراءة أن الحيز الجغرافي، الممتد من المحيط إلي الخليج، المعروف سياسيا بالوطن العربي، والذي يسكنه 300 مليون فرد ليس له وجود علي الخريطة التي رسمها ساسة الغرب، في غياب أصحاب الشأن، الذين لم يكن لهم أدني اهتمام إلا بالرمال والأنهار والجبال والوديان والموقع، والثروات والخيرات. لم يجدوا معني لما فوقها من بشر وثقافة ولغة وعادات وتقاليد وحضارات، وديانات بعثت فيها وخرجت منها، ومصالح مشتركة ومصير واحد، ولهم هوية وشخصية خصبة وثرية، وسحب الاعتراف بكل هذا، خاصة في مجال الهوية والثقافة، يهز كيان الأمة، ويجعلها هشة، فينفذ المتربص من بين الخروق والخروم فيتسع الخرق علي الراتق . وهزيمة الإنسان أو الوطن أو الأمة تتحقق بتزكية الشعور بالضياع، والتشكيك في الهوية وهدم البناء الذي قامت عليه الشخصية، فيتهيأ كل شيء للانصياع والإذعان، إلي أن يصل إلي الانسحاق الذي يجعل صاحب الهوية المشكوك فيها والشخصية المهتزة يتطلع إلي عدوه، يتمثله ويجعله مثلا أعلي. وهذا أعلي مراحل الانحطاط التي تمر بها أمة، وأعتقد أن الأمة العربية تمر بشيء شبيه بهذا الآن!. هذا الواقع المعقد ساهم في تشكيل وجدان نخب ثقافية وسياسية، استطاعت أن تتحكم في إدارة الدولة وتوجيه الرأي العام، وأصبحت هذه النخب أسيرة هذا التصور الذي يحمله الغرب عن العرب. وصار أساسا لشكل فسيفسائي يبني عليه شرق أوسط ، قديم أو جديد، لا فرق، أو كيان متوسطي، لا يهم. والعرب معروضون في سوق النخاسة بأرخص من التراب، وهذا جعلهم يقبلون بكيانات وهويات جديدة: خليجية في الجزء الآسيوي من الوطن، أو متوسطية كما في تونس، وافريقية كما في ليبيا، أو فرعونية، حسب دعوة أهل الكهف ، في مصر. مثل هذه الهويات الانعزالية تجد لها نظيرا في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية. كل ذلك هدفه حصر الصورة العامة للعرب في القبيلة والخيمة والجمل، وقصر السلوك الفردي والجماعي للأغنياء علي السفه وامتلاك الجواري والحريم.. كل لياليهم هي ألف ليلة وليلة، أما الفقراء فهم البدو. فيهم خشونة وجلافة، لا يخضعون إلا بالاستبداد، ولا يرضخون إلا بالعصا، صور نمطية لتغييبهم بشريا وإنسانيا وإلغائهم جغرافيا وسياسيا. والتعامل مع التاريخ لم يختلف كثيرا، ورغم إنجازات الحضارة العربية الإسلامية.. في الفلسفة والفلك والعلوم والطب والهندسة والعمارة والأدب والشعر والترجمة، تجد أن الدراسات الغربية تسقطها من حسابها بالكامل، وتهتم بالتركيز علي التاريخ القديم وآثاره، ونحن نفهم أن حضارات المنطقة القديمة.. مصرية وبابلية وفينيقية وسبأية، وغيرها. شكلت روافد غذت الحضارة العربية الإسلامية وساعدت في بلورة هوية المنطقة. ويتعامل الغرب مع هذه الروافد علي قاعدة القطيعة بينها وبين الحضارات التي تلتها، ومنها الحضارة العربية الإسلامية، وهذا يحكم النظرة إلي أبناء المنطقة العربية، باعتبارهم جماعات منقرضة. فالمصريون لم يبق منهم ولهم إلا الآثار والأحجار، وهو أساس الدراسات الغربية، خاصة في مجال المصريات.. حدثت القطيعة بين الروافد والمجري والسياق الحضاري التالي، وإذا ما دققنا في ذلك نجده نوعا من سحب الاعتراف بحضارات العرب في العصور اللاحقة للتاريخ القديم، لتأكيد صورة القبيلة والخيمة والجمل، ومن الممكن إضافة التماسيح، التي لا وجود لها، تجري في النيل عندما يتعلق الأمر بمصر. نظرة لا تخلو من روح استعلائية عنصرية، تجد للأسف مؤيدين بين عرب يتوزعون ما بين انعزالي وطائفي ومصهين، فتجد مصريا يقول لك أنا مش عربي ، وكأنه يقول لك أنا لست أنا. أو لبنانية تقول نفس الشيء، وآخر عراقي يلغي عروبته بطائفيته، وهكذا في أقطار عربية عديدة. نحن هنا لا نتطرق للأقليات التي تعيش في الوطن العربي، كالكردية في المشرق والأمازيغية في المغرب. الحديث منصب علي الغالبية العظمي. من العرب العاربة والعرب المستعربة، وهذه الروح تصب في قناة توظيف الإلغاء الجغرافي والسياسي والتغييب البشري المفترض، ليبدو الوطن العربي منطقة فراغ، تسكنه جماعات هامشية، يمكن إبادتها وتطهير المنطقة منها عرقيا. والفراغ يملأه الاستعمار أو الاحتلال المباشر أو الاستيطان، وخرج من أجله دعوات وأيديولوجيات تمنح أرض بلا شعب ادعاء، لشعب بلا أرض كذبا. والتفتيت والتقسيم والتهشيم والتفكيك الضروري لتحقيق هذه الأهداف، يقتضي بريقا مزيفا يتم إضفاؤه علي الدعوات الإنعزالية، واستظهار محاسن لنشر ثقافة الفتنة ، واستنباط أسباب لتعميم روح الهزيمة. وكلما زادت معدلات التغريب في أوساط النخب السياسية والثقافية العربية، واستخدام أدوات الاستشراق فيمن لديه استعداد من الجيل الثاني والثالث لعرب الشتات. أو من وصفهم المحاضر بالدياسبورا العربية، كلما زادت الحاجة إلي استعارة الخطاب الغربي الاستشراقي، الذي يبرز نقاط الضعف، ويعتبرها مسلمات واجبة الرضوخ، ويقر بها كقدر لا فكاك منه، والعرب، مع أنهم في كر وفر ورباط لأكثر من مئتي عام متصلة، يقال لهم كم هزمتم، وعليهم أن يردوا: وكم انتصرنا وكم أبلينا بلاء حسنا، رغم فارق العدة والعتاد. هذا في الوقت الذي يسير فيه أغلب حكام العرب في الاتجاه المعاكس، عند النصر يتهافتون نحو التسليم، وفي الصمود يبيعونه بثمن بخس. وضعوا النصر، الذي تحقق في 1973 خارج سياق النصر، أو الكر والفر، وحولوه إلي جملة اعتراضية في سفر الهزيمة، وجعلوا منه عبور معاكس للتراجع، بدل أن يكون حافزا علي التقدم، والمتابع يجد تناقضا صارخا بين صورة العالم، من أقصاه إلي أقصاه، وصورة العرب. فالعالم ينشد التكتل والتضامن والوحدة.. ألمانيا تندمج، وأوروبا تتوحد، وشعوب آسيا والأمريكيتان تتكتل، أما أن يتفوه عربي بكلمة عن الاتحاد أو التضامن أو الوحدة، تجد من يهب منتفضا متوعدا.. يقسم بأغلظ الأيمان بأن ما يقوله سخيف، لأنه من رابع المستحيلات، وكأن العرب من طينة غير طينة البشر. والمشكلة زادت تعقيدا مع توظيف الديمقراطية وحقوق الإنسان لترسيخ هذه الروح. فحقوق الإنسان، وهي تناصر حقوق الأقليات تأتي مصاحبة لشطب الأغلبية من المعادلة الوطنية، لأنها من العرب. ومثل العراق صارخ، فالأكراد وهم يتولون تقسيم العراق وتفتيته، يوحدون إقليمهم.. الأقلية الكردية تسير في اتجاه الكيان المستقل الموحد. أما العرب يجب أن يكونوا أكثر من كيان: شيعة وسنة.. وعليهم أن يقبلوا بوزن الأقلية وشروطها.. كيف تعطي أقلية لنفسها حق إلغاء وجود الأغلبية وتفتيتها وتقسيمها، أقليات فرنسا لم تلغ الوجود الفرنسي، ونفس الشيء في بريطانيا، وباقي العالم، ومطلوب من العرب، دون غيرهم، مقايضة حقوق الأقليات بإلغاء وجودهم ذاته! ولو كنا قد أخذنا التصويت في نهاية المحاضرة لكانت لغة الاستشراق لها الغلبة، فقلت في نفسي اللهم الطف بنا مما تخبئه الأيام القادمة. ------------------------------------------------- القدس العربي 2005/10/22