تسود الأوساط الإعلامية والسياسية حالة انقسام واضحة لا تخطئها عين المراقب في التعامل مع الملف السوري قبيل وأثناء وبعد تقرير ميليس، هل الظرف مناسب لجلد الحكم السوري وجرد أخطائه الإستراتيجية، وهل مقتضى الوقت هو إنقاذ سوريا البلد العربي المحوري، أم إغراقه وتوريطه أكثر. وفي المقابل، يرى فريق أن المطلوب من النظام السوري اليوم أن يضحي بالبعث ويعمل على إنقاذ البلد والمقدرات والسيادة والاستقلالية، ولا يمكن بحال القبول بسياسات الحكم لا بحجة الظرف ولا السياق ولا بأي حجة أخرى، وما هو مطلوب لا تسقطه حالة الحصار والعزلة التي يعيشها حكم البعث في سوريا. الجدل نفسه عرفه ملف صدام والعراق عشية الغزو الأمريكي، وإن بفارق. لنحاول جمع مفردات المشهد والوضع والموقف. يكاد يتفق الجميع على أنه إلى الآن لم يبادر الرئيس الأسد منذ اعتلائه سدة الحكم باتخاذ خطوات وإجراءات إصلاحية فعلية وجادة، تحفظ للنظام البقية الباقية من ماء الوجه في الداخل والخارج. والمعروف أن التيار الإصلاحي في سوريا يواجه نظاما موجودا منذ أربعين سنة يحاول التشبث بالحكم بكل الوسائل، والمشاع أن "الحرس القديم" هو الذي يعيق الإصلاحات التي يود الرئيس إجراءها، وإن حصل تقدم محدود على المستوى الاقتصادي، لكن لم يصاحب ذلك انفتاح سياسي يذكر. فالوضع في سوريا يمكنه اختزاله في مواجهة بين الإصلاحيين وأعضاء حزب البعث الذين يعتمدون في استفزازاتهم على أجهزة الاستخبارات، حيث الجميع بمن فيهم الوزراء ينحني أمام إرادة المخابرات. وخضنا كثيرا في تقرير ميليس وابتعدنا عن دائرة الاهتمام والانشغال: الإصلاح السياسي والاقتصادي في سوريا إنقاذا للوضع هناك. نعم أمام النظام السوري الآن خياران: إما إنقاذ الوضع والتضحية بالبعث، أو التمسك بالحزب وسياساته، وتعريض سوريا البلد والمقدرات والتاريخ والمستقبل للمخاطر. ولا أظن أن أحدا اليوم يثق في حكم البعث وتوجهاته، إذا استثنينا حزب الله وحركة أمل وبعض القوميين العرب ممن يعيشون على مقولات جبهة الردع والمواجهة، حيث يدرك المراقب أن المواجهة مع إسرائيل والقضية الفلسطينية ومواجهة "الأصولية" تحولت إلى أوراق رابحة لكسب معركة الوقت وتبرير سياسة الإرجاء والقفز على ملف الإصلاح. وأما لجنة التحقيق الدولية، فلا تعدو أن تكون قناعا من أقنعة الاستعمار الجديد، والتفاصيل التي تضمنها تقرير ميليس، يرى فيها الكثير من المراقبين والمتابعين للملف السوري اللبناني، بأنها لا ترتقي بعد إلى درجة رفع لائحة اتهام ضد سورية أو ضد مسئولين كبار في نظامي الحكم السوري واللبناني، إذ غلبت عليه التلميحات والتقديرات وقلت فيه المعلومات. ولهذا حصل ميليس على تمديد لشهرين، حتى يواصل تحقيقاته في سورية وفي لبنان، على أمل أن توافق سورية على تغيير طبيعة تعاونها وأن تقدم لميليس قربانا من العيار الثقيل. ويبدو أن واشنطن رأت أن هناك حاجة لوقف التحقيق من أجل رفع تقرير انتقالي غير كامل، فهي بحاجة إلى مادة إدانة ما ضد سورية، وليس آنية وغير كاملة، حتى تفرض خيارها على سوريا. رغم أنإجبار سوريا على الوقوف على أطراف أصابعها لا يبدو أمرا هينا. ورغم أن الحديث عن فرض العقوبات على سورية، يجتاح واشنطن، يبقى السؤال مطروحا حول ما إذا كانت هذه العقوبات ستخدم لبنان؟ وفي هذا، يخشى كثير من أن ترد سورية على مثل هذه الخطوات المجحفة بإغلاق الحدود مع لبنان. لتترك سورية لبنان دون صلة تجارية بدول عربية أخرى، وهي خطوة سبق لسورية أن اتخذتها هذا العام وألحقت أضرارا هائلة بالزراعة اللبنانية. والمحتمل أن تمنح واشنطن الآن فرصة أخرى لدول عربية لإقناع سورية بتحسين طرقها ولا سيما في كل ما يتعلق بالعراق. وهكذا يصبح التمديد الذي تلقاه ميليس لاستكمال التحقيق تمديدا أيضا لسورية للإيفاء بمطالب واشنطن فالدول الغربية ما تزال منقسمة بشأن الخطوة المقبلة، ويبدو أن العقوبات ليست حتمية. فإذا كانت أمريكا تريد تغييرا في النظام، فإن فرنسا لا تريد رؤية النظام وهو ينهار خشية حدوث فوضى أو حرب أهلية، بينما بريطانيا ليست واثقة، لأنها لا تعرف ماذا سيحدث بعد ذلك. وعلى هذا، فإن الخيار أمام سوريا سيكون أحد أمرين: إما أن تعامل مثل العراق أو أن تعامل مثل ليبيا، بمعنى أن ترفع الضغوط عنها مقابل بعض الخدمات المحددة. وإذا بدت الولاياتالمتحدة قلقة إزاء الدور السوري في العراق، فإن فرنسا تبدو أكثر قلقا بشأن لبنان. وهناك من يرى أن الولاياتالمتحدة أخذت بنصائح فرنسا وبريطانيا ووجهة النظر العربية، ومفادها أن الاستقرار أفضل بكثير من الفوضى، وأن وجود الرئيس بشار الأسد ضعيفا أفضل من عدم وجود الأسد البتة. كما أن سوريا تواجه مزيدا من الضغوط بشأن اغتيال الحريري"، ونعني هنا تحديدا التسريبات من تقرير لارسن الذي يتهم يتهم فيه سوريا بأنها لم تنه بعد أنشطتها العسكرية والاستخبارية في لبنان، الأمر الذي يعد، في نظره، انتهاكا صريحا للقرار 1559. والمفروض أن تعيد سوريا فحص سياستها الداخلية، وأن تنفتح على مطالب شعبها وتلتحم مع همومه وتباشر في اتخاذ إجراءات وإصلاحات فعلية بدءا بالزمرة الحاكمة وتساهم في كشف حقيقة مقتل الحريري، وإذا تحقق لها الالتفاف الشعبي، فلن يؤثر عليها كثيرا لوائح أو مطالب، لأن هذه لن تقف عند حد، وتنتهي إلى إملاءات وإخضاع. وإننا كثيرا ما نغفل عن حقيقة جوهرية ونسقطها من تحليلاتنا وتقديراتنا، أنه ما عاد هناك اليوم فصل بين الداخل والخارج، وأن طغيان الداخل وهشاشته والسياسات الرعناء –كتلك التي عملت بها سوريا في لبنان طيلة العقود الماضية-، يغري إلى حد كبير بسياسات الإملاء ومنطق الإخضاع وعبث القوى الخارجية بشئون الداخل، وأن ما تتجرعه اليوم سوريا لا يمكن فصله عما تحصده من ويلات وأعاصير جراء سياساتها في لبنان وفي داخلها. المصدر : العصر