لا تقف دلالات تقرير ميليس وتداعياته عند حدود معاقبة المسئولين الأمنيين السوريين واللبنانيين عن جريمة اغتيال الرئيس الحريري، فليس عبثا أن يرد في التقرير إشارات إلى الرئيس السوري واللبناني وإلى وزير الخارجية السوري فاروق الشرع وصهر الرئيس السوري آصف شوكت وكبار المسئولين السوريين واللبنانيين وجماعة أحمد جبريل. ورغم أن النسخة الأخيرة من التقرير قد حذف منها أسماء المسئولين السوريين، إلا أن التقرير يذهب بعيدا عندما يطلب التحقيق مع سوريين خارج سورية. ما يمكن أن يقرأ بوضوح من نتائج التقرير وتوصياته أن المرحلة القادمة ستتسم بإعادة ترتيب الوضع الداخلي في لبنان وزلزال قادم في سوري، إما بفعل تدخل خارجي أو حدث كبير في الداخل، الأمر الذي سينعكس على الفلسطينيين في لبنان وعلى الوضع الفلسطيني ومسار التسوية بأسره، وهو ما سيصل في النهاية إلى إعادة رسم صورة النظام العربي القادم. بعيدا عن مناقشة القيمة القانونية ومدى صحة الأدلة التي يستند إليها فإنّ خطورة التقرير وقيمته السياسية تأتي من توقيته والظروف السياسية الحالية التي يتعرّض فيها النظام السوري إلى "أزمة بنيوية" خطيرة بضغوط خارجية وداخلية عنيفة تتطلب حلولا "جذرية". فالتقرير يقدم شهادة الإدانة والمبررات التي يمكن أن تستثمرها الولاياتالمتحدة ضد سوريا لزيادة الضغوط وتعزيز ذلك بقرارات جديدة من مجلس الأمن تدفع النظام السوري أكثر فأكثر إلى زاوية حرجة سواء على المستوى الدولي أم على المستوى الداخلي. أهم التداعيات التي ستترتب على التقرير ابتداء أنه سيعجل بالاستحقاق المطلوب ويرمي بالكرة الملتهبة إلى الداخل السوري؛ فإما أن يتخذ الحكم السوري قرارات حاسمة يستجيب فيها للمطالب الأميركية ما يتعلق بالعراق وفلسطين ولبنان والعلاقة مع إسرائيل، وينصاع لتوصيات ميليس وهي على درجة كبيرة من الخطورة، إذ ترهن السيادة والسياسة السورية للمطالب الأميركية بالكلية، وتؤدي إلى تصفيات كبيرة في بنية النظام وقياداته الحالية بما في ذلك إنهاء دور الصقور وفي مقدمتهم فاروق الشرع. وإما أن يحدث اهتزاز في الداخل السوري يقلب معادلة النظام ذاته، وبالتالي نكون أمام متغيرات ومعطيات جديدة تتعلق قراءتها بما سينتج عنها. الاحتمالات السابقة ستؤدي إلى نهاية الدور الإقليمي السوري الحالي. لكن ما نأمله أن يأخذ المسار الذي يسلكه الرئيس السوري في المرحلة القادمة مزدوجا، الأول باتجاه دفع استحقاق جريمة اغتيال الحريري سوريا والعمل على إعادة إنتاج العلاقة السورية- لبنانية باتجاه صحيح يلغي منطق الوصاية والتدخل، والثاني باتجاه تصحيح الأوضاع الداخلية وإعادة الاعتبار للشعب السوري، وهو المسار الذي بات ملحا مع مرور الوقت، خاصة أن التيار العريض من المعارضة السورية تيار وطني له مطالب محقة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية. بالتأكيد سيؤدي الزلزال السوري القادم إلى اهتزازات كبيرة في المنطقة، على لبنان والمعادلة السياسية الداخلية ووضع المخيمات الفلسطينية، وعلى الوضع الفلسطيني وقوة المنظمات الفلسطينية المعارضة التي ما زالت ترعاها دمشق وفي مقدمتها حماس، وسيؤدي كذلك إلى تغيير في المعادلة الإقليمية بأسرها وسيؤثر على توازنات القوة والنفوذ بين الولاياتالمتحدةوإيران والصراع على العراق. في مقابل الاحتمالات السابقة، هناك احتمال آخر مختلف تماما بأن يردَّ النظام السوري سلبا على تقرير ميليس وعلى قرارات مجلس الأمن المتوقعة، وألا تصل الاهتزازات الداخلية إلى الدرجة التي تتمكن من قلب المعادلة الداخلية السورية. في هذه الحالة سيكون رهان النظام على أوراق إقليمية أبرزها التحالف مع إيران، خاصة بعد عودة المحافظين إلى السلطة هناك وتأزم المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، والرهان على الوضع في العراق والمأزق الأميركي هناك، والرهان على حزب الله ودوره في الداخل اللبناني. لكن هذا الاحتمال يستعيد رهانات النظام العراقي السابق قبل سقوطه المريع، إذ خسر رهانه الأهم على الشعب والمجتمع! على هامش تداعيات التقرير والضغوط التي ستزداد على سوريا ، ستنشط المعارضة العربية للدفاع عن سوريا ودعمها في مواجهة الحملة الأميركية. ما نرجوه أن تتعلم المعارضة العربية من الدرس العراقي وألا تذهب بعيدا في رهاناتها على قاعدة أن الأولوية للمعركة مع الاحتلال الصهيوني والهيمنة الأميركية، فالدرس العراقي واضح وصريح ولا يقبل التأويل: لن ينتصر شعب مهزوم من داخله.. إن الحرية شرط رئيس لأي معركة يخوضها أي شعب على وجه البسيطة!