قديمًا كان الاعتداء على الحقوق والممتلكات العامة يأتى غالبًا من قبل عصابات معزولة أو من خلال أفراد كانوا دائمًا على الهامش، ولم يكن مبررهم لارتكاب جرائمهم فقط الكفاية وسد العوز، بل رغبة فى الانتقام من المجتمع المستبد الذى هَمَّشَهم وسلب حقوقهم فيه. أما اليوم فقد أصبح إجرام السلطة هو الأكثر تهديدًا لاستتباب أمن المجتمعات والتحدى لأكبر تشريعاتها ومؤسساتها.. وهو نمط من الجريمة تمارسه مؤسسات الدولة تجاه مواطنيها لحظة كل احتكاك وتعامل يتم، ويتعمق ذلك النمط فى المجتمعات المعاصرة ويتحكم فى مفاصلها، ويدرجه علماء الجريمة كأحد أشكال الجرائم المنظمة التى تمارس مقبل رجال السلطة.. فلا يخفى علينا معاناة المواطن العادى فور رغبته فى استخراج رخصة قيادة أو استردادها وصولاً إلى رغيف العيش وجحيم الطوابير. ولعل ما شهدته المجتمعات العربية عامة ومصر بخاصة فى إطار ماسُمىَّ بالربيع العربى من فوضى وانفلات وتدمير لمرافق الدولة بدعوى تبعيتها للأنظمة البائدة ما هو إلا نتاج لإجرام السلطة، الأمر الذى جعل الجريمة ليس فعل مجرد يصدر عن جانٍ، بل رد فعل ضحية تدافع عن حقوقها المسلوبة بأيدى أنظمة مستبدة.. وهناك ثلاثة أنماط لإجرام السلطة، أولها يتمثل فى قوى الجريمة المنظمة وفى مقدمتها الجماعات الإرهابية وكبريات منظمات المافيا العالمية، تلك التى حققت تطوراً مذهلاً سواء على مستوى الانتشار أو التأثير؛ حتى أصبح لهذه المنظمات فروع راصدة لمؤشرات التنمية فى أى مجتمع.. ولما كان الاستقرار والأمن هما الوجه الآخر للتنمية، فقد باتت هذه المنظمات بمثابة عفريت العلبة، علبة مغلفة بالمعونات الأجنبية الداعمة للتنمية وتحمل بداخلها شبح المافيا، فمتى تمردت دولة وأعلنت عصيانها لقرارات دول المركز - أمريكا وحلفائها - تفسخت العلبة عن المافيا كوجه خفى للمعونة قادر على ضرب التنمية ووأد مكتسباتها، ولعل ما حدث فى أفغانستان والعراق والسودان ومصر وغيرها يعد دليلاً على قدرة الدول الأوروبية المانحة على صناعة المافيا باعتبارها سلاحًا سحريًا فى السيطرة الناعمة على الشعوب.. وربما نجد فى هذا العرض تفسيرًا جديدًا لما حدث فى رفح فى لحظة ولادة وتكوين الدولة المصرية الجديدة؛ خاصة إذ أصبحت أنشطة المافيا فى طليعة قطاعات الاقتصاد العالمى الأكثر ربحية. وثانى هذه الأشكال هو النفوذ الاقتصادى العابر للحدود، والذى يعد انعكاساً مباشراً لظاهرة العولمة بما تعنيه من فراغ فى القانون العام، عبر صيغ مختلفة من الفساد والعدوان على الحقوق الاجتماعية واغتصاب الموارد الطبيعية وتدمير البيئة فهذا النفوذ دائماً على خصومة مع القانون ولا سيما فى غياب تشريعات ومؤسسات فاعلة ترسم حدوداً للنشاط الاقتصادى وعلاقة الدولة بالسوق، ولعل ذلك النوع كان سببًا مباشرًا فى إسقاط حكومة نظيف التى تزاوجت فيها السلطة مع رأس المال؛ فصارت مصر مرتعاً لتجارة المخدرات والسلاح ومجالاً فسيحاً لهيمنة السوق السوداء. أما النمط الثالث فيتعلق بإجرام السلطات العمومية المتمثلة فى الجرائم التى ترتكبها الأجهزة الاستخباراتية وقوات الأمن تجاه المعارضين لسياسات النظام الحاكم، والتى حرفت مفهوم الأمن الاجتماعى واختزلت مدلوله فى الحفاظ على أمن النظام، ومن ثم فقد حدث تحول فى الخلفية الاجتماعية للظاهرة الإجرامية، فلم تعد الجريمة مرهونة بالفئات الأكثر فقراً وهامشية وإنما بالنخب المتحكمة سياسيًا واقتصاديًا، تلك التى ترعى كل نزوع إجرامى وتستغله لحسابها.. فدائما ما تتدخل هذه الأنظمة جنائياً لحل لمشكلات الانفلات وتحقيق الاستقرار، والواقع أن ذلك لا يحتاج لإجراءات جنائية بقدر ما يتطلب سياسات اجتماعية بديلة وليس استراتيجيات جديدة تقوم على الإقصاء.. ففوضى الحرية خير من دولة تقوم على الاستبداد.. [email protected]