كم كان رائعًا أداء الرئيس د. محمد مرسى فى احتفالية ليلة القدر، التى أقامتها وزارة الأوقاف تكريمًا لحملة القرآن الكريم، فقد استطاع بخطبته الارتجالية أن يأسر القلوب ويستولى على مجامع الأنفس، فللمرة الأولى منذ أزمان سحيقة نرى رئيسًا معتزًا بدينه منتميًا لحضارته الإسلامية مستلهمًا خطبته من مفردات القرآن الكريم المعجز طارحًا فقره بين يدى ربه ناصحًا لشعبه أن يتوكلوا على الله تعالى فى جميع أعمالهم. لم يعتد الشعب المصرى على مثل هذه النوعية من الخطب، فقد اعتدنا على مدار ثلاثين عامًا على نوعية من الخطب الباردة المكررة التى كان مبارك يزيد برودتها بطريقة أدائه الآلية، ناهيك عن المضمون الممل المحفوظ من كثرة تكراره، والذى كان يرسل رسالة ضمنية لجمهور المستمعين مفادها "أنا ربكم الأعلى".. ولكن مرسى جاء ليبدد هذه الصورة النمطية ويضعنا أمام صورة الرئيس الواثق بنفسه المتوكل على ربه المتمثل لقيم دينه وأهمها: قيم التواضع والإحساس بالفقر الدائم لله تعالى. وجاءت خطبة ليلة القدر لتزيد من إبهارنا بأداء الرئيس بعد أن فاجأنا عصر اليوم ذاته بقراراته الثورية التى تخطت آمالنا ومنتهى تفكيرنا، والتى أنهت ستين عامًا من الحكم العسكرى لمصر، فقد كان المتوقع أن يتبع الرئيس الكتالوج التركى فى التعامل مع العسكر وأن يعتمد الوقت كجزء من العلاج، بل ووطن البعض نفسه على فترة زمنية قد تطول بعض الشىء لحين خروج العسكر من الحياة السياسية ولكن الرئيس/ مرسى أبى إلا أن يفاجئنا بحزمة من القرارات التى أنهت الوجود العسكرى فى الحياة السياسية وحرقت مراحل كثيرة كان علينا أن نقطعها، وأثبت للجميع فى الداخل والخارج أننا أمام رئيس قوى ومتواضع فى الوقت ذاته، ولديه القدرة النفسية على اتخاذ أصعب القرارات وأقواها، كما أنه يمتلك حاسة الاستفادة من الأحداث لإحداث التغييرات التى يراها مناسبة وضرورية لتجديد مسيرة الثورة المصرية. لقد كان فوز د. مرسى بالرئاسة قدر الله النافذ ليحفظ مسيرة الثورة التى أصابها عطب وأعطال كثيرة فى فترة ما، وراهن كثيرون على إنهائها عبر وصول شفيق فى مخطط واسع كان يجرى الإعداد له، ولكن المتآمرين على أحلام وآمال شعب بأكمله نسوا قدرة الله تعالى التى تكمن بين الكاف والنون فى كلمة "كن"، ومن يتدبر أحداث الثورة منذ بدايتها يدرك تمامًا أن هذه ثورة رعاها الله وحفظها منذ أن كانت حركة احتجاجات محدودة يوم 25 يناير 2011 إلى أن زادت رقعتها واتسعت لتتحول إلى ثورة شعب بأكمله، رسالتها النهضة على أساس قاعدة الإسلام الحضارية، وقد كتبت قبل ذلك وقلت إننا لسنا أمام مكسب برلمانى أو نقابى أو حتى الاستحواذ على منصب الرئاسة بل أمام تغيير حضارى وثقافى وعقدى، وإعادة تشكيل مجمل العلاقات العربية والدولية، وأننا أمام إعادة صياغة للإنسان من جديد والانطلاق صوب بناء مفهوم "الأمة الجامعة"، التى تستجمع شرائط الخيرية وتقوم على عمارة الأرض وسياسة الدنيا بقواعد الدين.. وأن الجماهير التى رأيناها مصطفة بالملايين أمام لجان الاقتراع لتعطى صوتها للتيار الإسلامى إنما كانت تختار فى الحقيقة رؤيتها للمستقبل، وتعلن رفضها لكل المشاريع التى اكتوت بنيرانها منذ التغييب القسرى للإسلام وتقويض دولته.. وهو الأمر الذى أعود وأكرر عليه اليوم وأعتبر أن فوز د. مرسى والخطوات التى يتخذها على أرض الواقع هى خطوات هامة على طريق البعث الحضارى الإسلامى لهذه الأمة.. وهو ما يجب أن ندركه لنرتفع إلى مستوى التحديات التى تواجهنا اليوم، فنحن أمام تاريخ يتشكل.. يحتاج منا إلى مزيد من التجرد والبحث عن آفاق جديدة لنهضة المجتمع الحضارية والإنسانية. شكرًا للرئيس مرسى على هذا الأداء الذى أبهرنا فى يوم واحد فقط غاية الإبهار، وننتظر منه المزيد فى الأيام القادمة. [email protected]