يزخر التاريخ المصرى عبر عصوره السحيقة بعدد لا حصر له من الوقفات الشعبية ضد نظام الحكم الفاسد فيه.. فإذا كان المصريون قد ثاروا فى 25 يناير ضد نظام مبارك عندما تزاوج رأس المال بالسلطة، فقد هَّبوا ثائرين للخروج على تقاليد الخضوع للهيئة الحاكمة والنخب الإقطاعية التى استغلت علاقتها بالسلطة؛ فتقاسمت مع الحكام خيرات البلاد، وانطلقت الجماهير الغاضبة تحطم بلا تمييز كل كيان رئاسى، واقتحمت العصابات المسلحة الأماكن المقدسة، حتى الأهرام لم تمنعهم قداستها من التمرد، فاقتحموا على الموتى سكونهم، وسلبوا الراقدين فى سبات الأبدية ثروات أصبح الأحياء الجياع أولى بها من الذين ماتوا تخمة وشبعًا، لقد ثار الفراعنة عندما تحولت مصر إلى أقلية مسيطرة تنعم بالرفاهية والسلطة وتعيش على أمجاد العابرين وتتقاعس عن تحمل مسئوليتها نحو الوطن والمواطن.. وأغلبية مغلوبة على أمرها غريبة فى وطنها تطحنها الحاجة والفقر، وإذا كان التاريخ قد أكد لنا أن الحاكم آنذاك لم يكن شخصًا عاديًا بقدر ما كان إلهًا مقدسًا، فإنها قلما تكن ثورة شعب ضد حاكمه بقدر ما كانت ثورة شعب ضد آلهته.. فمن المعروف مدى خشوع المصرى القديم لآلهته فقد كان الدين ولا يزال وسيظل أكبر قوة تؤثر فى حياة الإنسان المصرى. والتساؤل الذى يطرح نفسه بقوة: هل كانت العلاقة بين الملك والشعب قديمًا علاقة دينية سياسية أم أنها علاقة ذات توجه مختلف؟ فقد استطاع مؤسسو الأسرة المصرية الأولى أن يكونوا لمصر حكومة مركزية قوية على رأسها الملك المؤله الذى جمع فى يديه كل السلطات، حكومة مركزية كان الملك محورها بل الروح التى تبعث الحياة فى الدولة وكل ما يحدث فيها من وحيه ومن فيض بركاته، فهو الإله العظيم حور الذى هو فى نظر رعاياه إله حى على شكل إنسان، له على شعبه مهابة الإله وتقديره، ومن هنا كان الأساس السياسى والاجتماعى الذى قامت عليه الحضارة المصرية هو التأكيد أن مصر دولة يحكمها إله.. وفى ظل هذا الإطار الطبيعى يصبح التنظيم الاجتماعى شرطًا أساسيًا للحياة ويتحتم على الجميع أن يتنازل طواعية عن كثير من حرياته ليخضع لسلطة توزع العدل والماء بين الجميع، وبذلك لا تكون الطبيعة وحدها سيدة الفلاح (النهر) وإنما بين الاثنين يضيف الرى سيدًا آخر هو الحاكم، فهنا يصبح الحكم والحاكم وسيطًا بين الإنسان والبيئة؛ ومن ثم فقد أصبح الفرعون ضلعًا أساسيًا فى مثلث الإنتاج إلى جانب الضلعين الطبيعيين الماء والشمس، ولم تكن أولوية الحاكم محض صدفة ولكن لكونه ضابط النهر وبصفته الملك المهندس وبطريقة ما صانع المطر.. ومن ثم فإن العلاقة الاقتصادية بين الملك والشعب قد بدأت قبل العلاقة الدينية، فقد جاءت ثورة الجياع الأولى فى مصر لأسباب تتعلق بجفاف النهر وسطوة حكام الأقاليم.. وإذا كان العقد الاجتماعى الكائن بين الملك والشعب (الدستور) قد نقضه الملك عندما تسبب فى مجاعة شعبه فقد نقضه الشعب أيضًا عندما ثار على الملك وتمرد عليه.. ففى أواخر عهد الأسرة السادسة أنشأ حكام الأقاليم والكهنة نظامًا أشبه بنظام الإقطاع الأوروبى حيث حدوا من نفوذ الملك لصالحهم واستغلوا السلطة، فكثرت المظالم وعمت الفوضى، وسقط العدل فانفرط الجياع كالمسبحة، حتى فاض الكيل على المصريين فقاموا بالثورة كرد فعل عنيف للظلم الاجتماعى الذى عرفته مصر فى أواخر الدولة القديمة عندما تحول المجتمع إلى حاكم إله وشعب عابد.. وليس اليوم عن البارحة ببعيد.. [email protected]