بين الفينة والأخرى تتجدد دعوات المصالحة بين النظام المصري وجماعة الإخوان المسلمين، وما بين داعي للمصالحة ومحبذّ لها ويراها فرض الوقت، وما بين رافض لها مستهجن لمجرد طرح فكرتها تتجدد المناقشات والأخذ والرد. والدولة المصرية لم تكن الدولة الأولى ولن تكون الأخيرة التي عاشت مراحل انقسام مجتمعي حاد وصل حد الاستقطاب الرأسي الذي قسم البلد قسمين، بصرف النظر عن نسبة كل قسم والوزن العددي له، وبصرف النظر أيضا عن تصورات كل قسم عمن الذي يمثل الحق ومن يمثل الباطل في ذلك الصراع الصفري. فما هي تجارب الشعوب التي شهدت تلك الحالة من الانقسام المجتمعي؟ وما هي تجارب الدولة التي شهد تاريخها حروبا أهلية بين سكانها سفكت عشرات الآلاف من الأرواح البريئة التي لم تكن لها ناقة ولا جمل في الصراع على السلطة والاستحواذ على الغنائم سوى لون بشرتها أو معتقدها الديني أو أصولها العرقية؟ ما هي تجارب الانقسام المجتمعي والحروب الأهلية في جنوب أفريقيا ورواندا وبروندي والجزائر وكثير من الدول التي شهدت صراعات داخلية؟ أقول إن دراسة سريعة لتجارب تلك الدول والشعوب ترينا أن الحل الأنسب كان في المصالحة الوطنية عقب مرحلة تطول أو تقصر من اتخاذ إجراءات جادة من العدالة الانتقالية والعزم على طي صفحة الصراع وتقديم التنازلات المتبادلة واحترام وجود الآخر والتخلي عن الأفكار العنصرية ومفاهيم الإقصاء ومقتضيات المعارك الصفرية، وتجاوز مرارات وصراعات الماضي سواء إن كان قريبا أو بعيدا. أقولها وبلا مواربة ولا كلام ساكت ولا كلام حمال أوجه المصالحة هي الحل، والهروب للأمام لن يحل المشكلة المجتمعية العميقة التي تعيشها الدولة المصرية من الثالث من يوليو 2013، ولن تتجاوز الدولة المصرية تلك العقبة الكأداء ما لم تقدم على خطوات حقيقية في مصالحة جادة يعترف فيها كل طرف بالآخر ليس شرطا أن يأتي راكعا ولا زاحفا ولا متحملا كامل فاتورة خسائر السنين، ولا حاملا كفنه على يديه. يكفيه أن يملك شجاعة الاعتراف أنه أخطأ في تقدير حساباته، وأنه جاد في طي صفحة الماضي، ويملك القدرة على اتخاذ قرارات شجاعة ولو كانت قاسية في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الدولة المصرية. أما أهم العقبات التي تحول دون المصالحة فهي القراءة الخاطئة لكل الأطراف عن مفاهيم الانتصار المطلق والهزيمة التامة لخصومه والتقدير الخاطئ لحسابات وموازين القوى على الأرض، إن أخطر العقبات هي المفاهيم المريضة عن سحق الخصوم وإفنائهم والقضاء التام عليهم حتى لا تقوم لهم قائمة، فحتى الجيوش المنهزمة في المعارك الحربية لا تسلم دون قيد أو شرط بل يكون لها بعض الاعتبارات التي تحفظ لها ماء وجهها وشرفها العسكري وتاريخها أن يلوثه التركيع بلا قيد أو شرط. وهم الاستسلام الكامل هو الذي يحول دون عملية مصالحة حقيقية عند هذا الطرف أو ذاك. ثاني أهم عقبات المصالحة هي الأفكار الخاطئة عن طرف بأنه يمثل الدين وليس جماعة سياسية تتبنى مرجعية دينية أو جماعة دينية تمارس عملا سياسيا، وعند الطرف الآخر بأنه يمثل الدولة وليس مجرد نظام سياسي جاء بالانتخاب ولو شابته الشوائب أو برضى فريق من الشعب وبنفس الطريقة ينبغي أن يرحل، إذا ظن الحاكم أنه هو الدولة والدولة هو فهذا مؤذن بانهيار وهدر مقدرات الدولة كلما تكثفت المظاهر على ضرورة رحيله. ثالث ما يحول دون عملية مصالحة كاملة هي وقوع قرارها في أيدي من يرتزق على الصراع ومن يستفيد من استمراره ومن يعمل على مد أجله وإطالة فترته أكبر زمن ممكن. هؤلاء المستفيدون من استمرار الوضع على ما هو عليه هم أخطر من يحول دون المصالحة لأن مصالحهم قد ارتبطت وجودا وعدما باستمرار حالة الصراع، لذا نجدهم كلما طرأت فكرة المصالحة وإنهاء حالة الصراع رفعوا شعارات التخوين وبيع دماء الشهداء أو رفعوا شعار هيبة الدولة وهيبة النظام وإلقاء التهم بالعمالة على كل من يدعو للتهدئة أو طي صفحة الصراع. كل الصراعات داخل الدول حتى الحروب الأهلية تنتهي بالمصالحة وخوض غمار مرحلة من العدالة الانتقالية، وكل الصراعات بين الدول حتى الحروب المسلحة تنتهي بالمصالحة واتفاقات ومعاهدات صلح. وحالة الصراع الأبدي هي حالة عبثية لا توجد إلا في الخيالات المريضة التي تقتات على جراحات الناس وآلامهم وتستفيد من استمرار حالة الصراع حيث ينشغلون بجني الغنائم فيما عموم الناس تئن من وطأة جراحاتها. المصالحة الجادة المتوازنة التي تحفظ لكل طرف حد أدنى من الحقوق وتلزمه بحد أدنى من الواجبات لا يرفضها إلا مسعرو الحروب وحفارو القبور الذين يتعيشون على حالة الحرب، وهؤلاء هم آخر من يُسألون في المصالحة أو يسعون إليه إلا أنه من نكد الدنيا أن يكون أغلبهم أصحاب قرار في الإقدام على المصالحة أو استمرار حالة الحرب.