ظهرت الحاجة لإنجاز المصالحة الوطنية فى مصر، بعد ثورتى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، لوضع حجر الأساس لمرحلة جديدة من تطور مصر، ولمعالجة الانقسامات الحادثة فى المجتمع، والناتجة عن انتهاكات حقوق الإنسان، وذلك من خلال تضميد جراح الضحايا، وتحقيق العدالة، ومحاسبة مرتكبى الجرائم، الأمر الذى يعزز بدوره سيادة القانون وتعزيز التعايش المشترك والسلمى بين جميع أطراف المجتمع. وعلى الرغم من تعدد المبادرات التى صدرت عن شخصيات عامة، مثل مبادرة الدكتور محمد سليم العوا ومبادرة الدكتور أحمد كمال أبو المجد ومبادرة الدكتور حسن نافعة، أو أحزاب سياسية مثل حزب النور، أو مؤسسات دينية مثل الأزهر الشريف، أو حتى من لجنة الخمسين المعنية بكتابة الدستور، وغيرها من المبادرات التى أنهمرت كالمطر، فإنها لم تلق إجماعا وطنيا أو حتى توافقا عاما حتى الآن. وهنا تجدر الإشارة إلى إن هناك العديد من المعوقات التى تقف حائلا فى اتجاه تحقيق أو دعم المصالحة الوطنية فى مصر، والتى تعد أقرب لخيوط متشابكة، تساهم فى التعقيد لعملية المصالحة أكثر من الاتجاه للحل، ومن أبرزها: تصورات متباينة 1- تعدد وتعارض المواقف والتصورات بشأن تحقيق المصالحة الوطنية، فى ظل غياب تعريف موحد للمصالحة غالبا ما يكون موقف القطاع الأكبر من المصريين من المصالحة مستندا على مفهومهم الخاص وكثيرا ما يكون منحازا لوجهة نظرهم، حيث يعد واحدا من المعضلات الرئيسية التى تواجه تحقيق المصالحة فى مصر تعدد المراحل الانتقالية، وبالتالى تعدد الأطراف الداخلة فى سياق المصالحة، لاسيما فى ظل مناخ الانقسام والاستقطاب الحالي، ومدى استعداد الأطراف المتنازعة للدخول فى إجراءات المصالحة وتقديم التنازلات والتضحيات من أجل إنجاحها، وتجنب وضع شروط تعجيزية للاندماج فى المصالحة الوطنية، وخاصة فى ظل نوايا بعض المنتمين للنظام الجديد للثأر من النخب التى كانت محسوبة على الأنظمة التى يتم إسقاطها، على الرغم من أن المصالحة بطبيعتها لا تستثنى أحداً من أية فرصة أو يستبعد من المشاركة مادام غير متورط فى جريمة محددة، وفق نهج المحاسبة قبل المصالحة. لذا، فإن هناك أبعاد عديدة للمصالحة الوطنية فى مصر، وهو ما يتطلب إجراء حوار وطنى شفاف وشامل حول تطبيق مفهوم «التطهير» الذى برز فى مرحلة ما بعد الثورة المصرية والمخاطر الذى يطرحه وفوائد تطبيقه. ومن شأن ذلك أن يضع أسس عملية مصالحة واسعة النطاق لاسيما أن الجميع فى مركب واحد على حد تعبير وزير العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية السابق المستشار محمد أمين المهدي، غير أن ذلك يواجه إشكالية رئيسية تتعلق بأن مفهوم المصالحة صار سيئ السمعة لقطاعات واسعة من الرأى العام المصري، وخاصة أن افراد عديدين فى الأحزاب الحاكمة فى ظل الأنظمة السابقة لم يتورطوا فى جرائم جنائية أو مالية أو حتى سياسية بما يجعلها فى سياق المحاسبة، وهو ما يتطلب إخراجها من سياق ما يطلق عليه التطهير، حتى لا ترتكب بأسمها جرائم حقيقية، لاسيما المتعلقة منها بحقوق الإنسان. عدالة ملتبسة 2- عدم وجود استراتيجيات وطنية واضحة لتحقيق المصالحة الوطنية. إن أهداف المصالحة الوطنية وآليات تطبيقها تتسم بالتعدد والتمايز، وهو ما يستلزم بلورة استراتيجية وطنية شاملة وواضحة المعالم، تحدد الأهداف المتوافق عليها ووسائل التغلب على المعوقات فى سبيل تحقيق المصالحة، مع تحديد دور المؤسسات المعنية فى الاضطلاع بتلك الآليات والإجراءات وفقا لخطة عمل منضبطة. ولعل ذلك البعد يرتبط أيضا بغياب الكوادر المتخصصة فى تحقيق المصالحة الوطنية وصولا لتطبيق آليات العدالة الانتقالية، وفقا لأبعاد عدة، خاصة الحقوقية والأمنية والقضائية، وأيضاً بسبب غياب البعد المؤسسى والتخطيط الاستراتيجى الفاعل لدى أجهزة الدولة، بل قد يتم تعيين العناصر المحسوبة على ذوى الحظوة بدلا من تعيين ذوى الكفاءة، على نحو يجعلها أقرب إلى «العدالة الانتقامية». تركة الماضي 3- ثقل التركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى مصر، سواء خلال المرحلة الانتقالية أو فى أثناء عهود أنظمة سابقة، بما يولد انطباعا لدى البعض بعدم جدوى المصالحة والرغبة فى التعايش مع الأوضاع الراهنة، نظرا لصعوبة تحقيق متطلبات المصالحة، بأشكالها المختلفة. فمع حدوث التحول السياسى بعد فترة من السلطوية يبدأ المجتمع يعبر عن نفسه ويحس بقيمته فى رسم ملامح مستقبله، إلا أن تركة الماضى تظل عائقا أمام قدرة المجتمع على ممارسة دوره، وقد تعيق تطور هذا التحول وتمنعه من التقدم إذا لم تتعامل القوى السياسية الفعالة حيال هذه التركة بشئ من العقلانية والموضوعية. وهنا، يشعر قطاع ليس بقليل من المصريين بحساسية حول مصطلح «المصالحة الوطنية» حيث يتولد تساؤلا جوهريا حول كيفية إتمام مصالحة بعد كل المعاناة خلال المراحل السابقة، سواء بعد مرور ثلاثة عقود مع نظام مبارك أو عام كامل مع حكم الإخوان المسلمين، أنتجت صراعات سياسية وعداوات مجتمعية وتضارب مصالح شخصية بل وعقد نفسية. وفى مواجهة ذلك، تبرز صعوبة الإزاحة التامة لرموز الحزب الحاكم السابق (الحرية والعدالة) والأسبق (الوطني) من الحياة العامة والتى قد تؤدى إلى خلق حالة من عدم الاستقرار. 4- ضعف أدوار المؤسسات الرسمية وغير الرسمية المعنية بالمصالحة الوطنية، نظرا لتعقد طبيعة المراحل الانتقالية التى مرت بها مصر، وخاصة فى ملفى الأمن والاقتصاد، على نحو أحدث تراجع فى الاهتمام بملف المصالحة الوطنية. فعلى الرغم من استحداث وزارة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية فى حكومتى الدكتور حازم الببلاوى والمهندس إبراهيم محلب لكنها لم تطرح رؤية عملية قابلة للتنفيذ بشأن مهامها، خلال المرحلة المقبلة، لاسيما أن المناخ العام لا يساعدها فى السير فى هذا الاتجاه. ويظل واحدا من أكثر نقاط القصور هو عدم القدرة على ضمان التعاون البناء من جانب «الجناة» فى بعض المؤسسات الأمنية عبر الإفصاح عن الاشتراك والعلم بالانتهاكات التى وقعت فى الماضي. بينما نشطت المؤسسات غير الرسمية مثل جمعيات ومنظمات المجتمع المدنى فى الدعوة إلى المصالحة الوطنية، بيد أن جهودها تظل محصورة فى دوائر النخبة وفى شكل حلقات نقاش وورش عمل وندوات فكر غير قادرة على حمل مفهوم المصالحة الوطنية وترويجه بين صفوف القوى المدنية والحركات الثورية والتيارات الإسلامية المتصارعة. محاولات غير مكتملة 5- تعثر المحاولات السابقة للتقصى فى الانتهاكات الحقوقية: إن عدم معرفة حقيقة العديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بعد تشكيل لجان مختلفة لتقصى الحقائق، سواء بعد سقوط نظام مبارك أو بعد انهيار حكم الإخوان، يعد من أهم أسباب حالة الاحتقان الاجتماعى والتى تؤثر على تحقيق التصالح الوطنى فى مصر. لذا، تعد معرفة الحقيقة أحد أبرز آليات العدالة الانتقالية، ويشمل الحق فى المعرفة الجانب الفردى للضحايا والجمعى للمجتمع. ويمكن فقط عن طريق كشف الحقيقة للمجتمعات التى ذاقت قسوة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وإساءة استعمال السلطة وانتشار الفساد، العمل على منع تكرار مثل هذه الانتهاكات. على جانب آخر، فإن عدم الكشف عن الحقيقة يؤدى إلى عدم الشعور بالأمان فى المجتمع المصري، وهو ما يقود بدوره إلى عدم الاستقرار الداخلي، لأن غلق الملفات دون إظهار الحقيقة يفتح الباب للثأر الفردى والانتقام الشخصى والتوتر المجتمعى والاحتقان، وتتمثل الميزة الرئيسية التى توفرها آلية معرفة الحقيقة فى أنها تساهم فى فضح انتهاكات وتجاوزات الماضي، ومن ثم مواجهتها أو الصفح عنها بما يحقق قدرا من الرضاء لدى المواطن العادي، ويساهم فى بلوغ المصالحة الوطنية، على النحو الذى حدث فى تجربة جنوب أفريقيا. 6- شكوك حول استقلال المؤسسة القضائية، إذ إن أزمة المصالحة الوطنية ثم العدالة الانتقالية تباعا فى مصر تعود بالدرجة الأولى إلى تبعية أجهزة النيابة العامة للسلطات التنفيذية أو تآكل الثقة فى القضاء الوطنى وغياب إرادة تسوية ملفات الماضي. بعبارة أخري، قد يكون القانون سببا فى إعاقة تنفيذ العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وخاصة فيما يتعلق بتأخر إصدار الأحكام رغم ثبات الأدلة بطريقة يصعب التشكيك فى صحتها، فضلا عن عدم تحريك بعض القضايا إلا بعد حدوث شرخ فى هياكل النظم الحاكمة. وهنا، لا يمكن تحقيق المصالحة الوطنية وتطبيق العدالة الانتقالية بالاعتماد على قضاء يشتبه فى كونه غير مستقل، حيث اتضح خلال فترة حكم مبارك وخلال حكم مرسى أن السلطة التنفيذية تريد ترويض القضاء، ففقدان القضاء للمصداقية يحد من ترسيخ المصالحة المجتمعية وحظوظ العدالة الانتقالية الحقيقية، وإن كان الرئيس السيسى يؤكد مرارا على استقلال القضاء وعدم التدخل فى شئونه. تجارب متعثرة 7- محدودية تجارب المصالحة الناجحة فى المنطقة العربية، باستثناء الحالة المغربية (بمبادرة من داخل نظام الحكم)، على نحو لا يقدم نموذجا متكاملا يحتذى به فى مصر. فعلى الرغم من النجاحات الواضحة التى حققت فى مجال إعادة الجزائر إلى استقرار نسبي، أخفقت فى بلوغ المصالحة الوطنية، حيث أن المصالحة لن تتحقق إلا عندما يعلم المواطنون ما حدث ويتصالحون مع الماضي، لكن الخبرة الجزائرية تشير إلى منح عفو شامل ومنح تعويضات مالية لعائلات الضحايا، بدلا من إعطائها المعلومات التى كانت بانتظارها لطى صفحة العشرية السوداء. كما أن المصالحة الوطنية لم تتحقق فى الجزائر بعد، لأن التطبيق الصحيح لهذه العملية ليس مسألة تدابير إدارية تتخذ لتنفيذ قرارات تصدر من أعلى الهرم إلى أسفله، بل هو مسار طويل يفترض مشاركة مختلف الفئات الاجتماعية فيه إلى جانب الأحزاب والمؤسسات السياسية كلها. علاوة على ذلك، لم تنجح تجربة المصالحة الوطنية فى الحالة العراقية. على الرغم من أن هناك دول اغتنمت فرصا فى سياق تحولاتها نحو بناء التحول من أنظمة سلطوية إلى أنظمة ديمقراطية، والتحول من المجتمع المغلق إلى المجتمع المدنى المنفتح، الذى يتجه لترسيخ مفهوم المواطنة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وتعدد الأحزاب وتمكين المرأة، وسد الفجوات بين الأطراف المتخاصمة أو المتحاربة، وتصحيح ما ترتب عليها من أخطاء وانتهاكات وجرائم، مع إيجاد الحلول المقبولة، وذلك لمعالجة تلك القضايا المختلف حولها بمنهجية السلم والحوار، بدلا من منهجية العنف وإقصاء الآخر، وترسيخ التشاركية، والنظر بتفاؤل إلى المستقبل والتسامح مع الماضي. خماسية المصالحة وهنا، يكمن التساؤل فى كيفية «توظيف الماضي» بحيث يساعد المجتمع على الانتقال من ماضى منقسم إلى مستقبل مشترك. فالبلد المنقسم على نفسه بدون القدرة أو الرغبة فى التسامح يغامر بتعريض الديمقراطية الناشئة للخطر. فقد نختلف على الماضى مع أولئك الذين دعموا الديكتاتورية، ولكننا لا نملك ترف عدم الاتفاق على الحاضر والمستقبل. وتظل الحوارات السياسية والعدالة الانتقالية هى الطريق الوحيد لتحقيق المصالحة الوطنية فى مصر، عبر تحقيق خماسية «المكاشفة والمحاسبة والمعاوضة والمأسسة والمصالحة».