من المعروف في عالم السياسة أنه لا قيمة تعلو فوق قيمة المصلحة حيث لها أولوية السيادة في العلاقات الدولية . أما الحديث عن العدالة والديموقراطية وحقوق الإنسان فهى مصطلحات ووسائل لا تطبق عمليا وبالشكل الصحيح إلا في الغرب وحده ، غير أنه يستعملها خارجيا في الصراع مع الآخرين كأداة ضغط وتهديد ليلوح بها عند الضرورة إذا قررت دولة “ما” أو نظام “ما” أن يخرج على قوانين التبعية والسمع والطاعة وأخلاق القطيع . وفي منطقتنا بالذات تسود الغالبية الآن حالة من الغيبوبة العمياء تدفع بالجميع إلى نسيان الذات الإسلامية الحقيقية ، والسعى وراء دوافع الحشد الطائفي الذى يمثل صورة من صورالانتحار الجماعي أشبه ما تكون بغيبوبة سمك الحوت عندما يخرج بإرادته من المياه العميقة لينتحر على الشواطئ في شكل مأساوى يدعو إلى الأسى والحزن . ومنذ زمن بعيد ولدي إحساس جارف بأن شراك الاحتيال والنصب السياسي قد وضعت لاصطياد شعوب المنطقة كلها بما فيهم السنة والشيعة معا في حروب عبثية مذهبية تتعدى صراعات الدول لتتحول إلى حرب شوارع في الحي الواحد . وهذا الإحساس ينمو ويزداد كلما زادات حماقات الأطماع وقصور الرؤية والتعصب المذهبي الممقوت . فقديما وقبل سقوط القطب الشيوعى كان الصراع حول الأيديولوجيات، وكانت أمريكا بأتباعها تمثل الفلسفة الرأسمالية ، بينما كان الاتحاد السوفيتى بأتباعه أيضا يمثل الفلسفة الماركسية . وعلى هامش هذا الصراع الدولي والذى اصطُلِح على تسميته بالحرب الباردة كانت هناك صراعات إقليمية في منطقتنا العربية والإسلامة تحولت إلى خصومة وتناقض بين الإسلام والقومية العربية فترة من الزمن ، ثم انتقلت مرة ثالثة لتكون صراعا طائفيا مكتوما حينا أو صارخا في بعض المناطق بين الأغلبية المسلمة وبين الأقليات الدينية حسب أولوية الحالة في التوظيف والضغط كما حدث في جزيرة تيمور الشرقية وجنوب السودان . والغريب أن إدراك هذه الحقائق كان وما زال حاضرا في أذهان الكثير من المفكرين الإسلاميين وغيرهم من النخب المثقفة ، ولكن لا أحد من القيادات والنخب السياسية فطن إلى توظيفه أو الاستفادة منه في تجنب حالات الصراع وتلاشي الوقوع في الشراك المنصوبة لاصطياد الجميع . وقد كانت الثورة الإيرانية أول من تعلقت بها آمال ملايين الجماهير من المسلمين في التحرر والاستقلال وكانت أحلامهم المطرزة بطموحات المنى تتوقع أن تكون الثورة سندا لكل المسلمين، وأن تحتضن الجميع دون تفريق أو تمييز طائفي ، واستدعت ذاكرتنا ونحن شباب مقولة الإمام علي كرم الله وجهه للأشتر النخعى في مصر “ الناس في الدنيا رجلان ، أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، وإياك أن يكون اختلاف الدين سببا للتمييز بين الناس في الحقوق والواجبات” وداعب خيال الجما هير وبخاصة الشباب حلم التحرر من دكتاتوريات وطواغيت كتمت أنفاسها قرونا وجثمت على صدورها عشرات السنين. ولكن بمرور الأيام تبخر الحلم وكانت الثورة الإيرانية أول من وقع في شراك الاحتيال والنصب السياسي حين تبنت المذهبية الطائفية ، ولم تتسب ممارساتها الحمقاء في إثارة الغضب فقط ، وإنما تسببت في حالة من الإحباط واليأس ، والشعور بالمهانة والمذلة التى مزقت ولا زالت تمزق نفسيات الشعوب الإسلامية في طول الأرض وعرضها، وشهدت الدنيا كلها نتيجة التدخل الإيراني في العراق وفى سورية ، والإصرار على تكريس الهزيمة النفسية المتعمدة لأغلبية سنية في العالم الإسلامي ، وما كان يجوز أبدا لثورة رفعت شعار الإسلام أن تشجع الطائفية المذهبية وأن تخذل الشعوب وتقف بجوار الطواغيت والدكتاتوريات بتعصب ممقوت ، وتفرض بقوة السلاح إرادة أتباعها وتتدخل في دول الجوار لتغليب فئة على أخرى دون رعاية لإرادة الأغلبية من شعوب العالم الإسلامي كله، وقد كان تصريح خامئني الأخير بأن الثورة الإسلامية لا تريد التمدد في المنطقة عن طريق المد الشيعي، وإنما تريد لأهل المنطقة العزة والكرامة هذا التصريح كان يمكن أن يخدع الناس قديما وقبل ما يقرب من نصف قرن، أما الآن فشواهد الحال في العراق وسورية واليمن تجعل هذا التصريح أشبه بنكتة سخيفة جاءت في غير مكانها وزمانها وهي نكتة تبعث على الأسى أكثر من أن تثير الضحك. موقف الملالي المتعصب في إيران وممارساتهم المستخفة بالعقول ولدت في المقابل مواقف عكسية بدت كرد فعل طبيعي، لكن أنظمة دكتاتورية مستبدة رأت في تنميته والدفع به فرصة لإشغال الشعوب وإلهائها عن مظاهر الفساد الاجتماعي والسياسي في الاستئثار بالسلطة والثروة والاستمرار في المظالم، واستغلت هذه الأنظمة رموزا دينية غير واعية ، كما فعل بعض الملالي في الطرف الآخر، الأمر الذى أفرز تحت الرماد لهيبا قابلا للاشتعال في أي فرصة . • والمشهد الآن محزن وكئيب، فالشر الذى يجب أن نتوقاه ونحذره بعد العراق وسورية ولبنان وقع الآن في اليمن ليضيف لكوارثنا كارثة أخرى تشهد في سجلاتنا أننا فقدنا الوعى والإدراك ، وأننا نسعى بطريقة اليائس المحبط إلى الانتحار الذاتى ، وبصرف النظر عن تحديد المسؤولية وتقسيم المخاطر وتوزيع الكوراث فالكل خاسر، لأن كل الدماء المراقة لها حرمة وقداسة، وهى دماء مسلمة وعربية تقدم بحماقة وبلا أى ثمن لتكون رصيدا مجانيا مضافا لمن نصبوا الشراك وجلسوا في انتظار النتائج ، لا ليهنئوا الفائز المنتصر ، وإنما ليدخلوا به في حلبة جديدة , وليفتحوا له مزيدا من أبواب الإجهاد الاقتصادى والاجتماعي والنفسي بشراء مزيد من السلاح استعدادا لجولة أخرى سيحاول المهزوم فيها أن يثأر لنفسه وفي أقرب فرصة . • وهكذا تتبدد ثروة الوطن في المال والبشر ، ويتحول العالم الإسلامي إلى محاور متصارعة تضيع معها فرص التنمية والنهضة وآمال الانبعاث في كل الوطن. • فواتير هذه التجارب المرة لا تتحملها إلا الشعوب تخلفا وانقساما وعداوات وثارات ومن ثم نرى أنه لابد للجميع من الهروب من هذا المأزق ، وأن نتفادى جميعا الوقوع في شراك الاحتيال والنصب السياسي، وأن نأخذ بجسارة زمام المبادرة باستعادة الوعى واستعمال مانعة الصواعق لوقاية الأمة كلها من شر عناد وغطرسة الطائفية القاتلة ، وبالطبع لست خبيرا في المطبخ السياسي ، ولكن لابد أن تدرك القيادة في إيران أن شعوب المنطقة لم تعد تتحمل هذا العبث الذى تقوم به عن طريق التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة ،ولذلك يجب أن تكف عن هذا. • وأرى أن زمام المبادرة الجسورة ينطلق من إيران وذلك يتطلب مجموعة من الخطوات الجادة وربما المؤلمة أيضا في مقدمتها : 1. الدعوة إلى وقف القتال وأن يقترن وقف القتال بانسحاب الحوتييتن والقوات الموالية لعلى عبد الله صالح من جميع المناطق وعودة الدولة الشرعية لقيادة البلاد في اليمن والجلوس للحوارعلى طاولة المفاوضات. 2. أن تبادر إيران بدعوة الحوتيين والضغط عليهم إلى التخلى عن حمل السلاح والخروج من كل مؤسسات الدولة . 3. أن يصدرعفو عام من الرئيس اليمني الشرعى يعقبه جمع كل السلاح ومن جميع اليمنيين، وألا يكون هناك سلاح إلا بيد الدولة وحدها. 4. . وتلك هى خطوة البدء بإطفاء الحريق الذي يصر آخرون على إشعاله داخل البيتين العربي والإسلامي الكبير ، لأن وجود هذه الحروب كارثة، واستمرارها شبح مخيف لكل المنطقة ، بما فيها إيران والسعودية . 5. أن يسود خطاب التصالح بين الجميع ليكون مقدمة لتحقيق الوفاق النفسي والذى هو الباب الأصلى والوحيد في تحقيق المصالح الكبرى للأمة بعيدا عن الطائفية وصراعات الأنظمة . 6. على كل الأنظمة في المنطقة أن تسعى جاهدة لتسوية الأوضاع المقلوبة التى تسببت في كل الكوارث وتهدد الآن بمزيد من التقسيم والتشظى . 7. أن تبدأ دعوة للمصالحة الوطنية يجتمع فيها الحوتيون وكل الفاعاليات اليمنية ويتم خلالها رفع المظلوميات عن كل الفئات المظلومة وإشراك الجميع بكل أطيافهم في العملية السياسية. 8. أن يستثمر البلدان الكبيران في المنطقة (السعودية وإيران) دراسة نتائج حروب المنطقة بتجاربها المرة، وأن يتحامل الجميع على الجراح، وأن نرتفع فوق الضغائن والكراهية ، لنعود جميعا سنة وشيعة إلى ذاتيتنا الإسلامية الحقيقية ذات الأفق الأوسع والأعلى في المحبة والتسامح والتى شكلت المظلة الحاكمة للعلاقات الإنسانية وقد عشنا جميعا في ظلها بوفاق تام ودون تعصب أو توتر أو كراهية. 9. أن على كل الأنظمة أن تكف عن المخاطرة والمقامرة بشعوب المنطقة ، والزج بها في صراعات يتصور البعض خطأً أنها تلهيه عن مساوئ الاستبداد وتصرف بصره واهتمامه عن مظاهر القهر والفساد السياسي والاجتماعي وغياب العدالة . 10. أن تبدأ القيادات السياسية في المنطقة بالإصلاح السياسي الذى يشترك فيه الجميع دون إقصاء لأي طائفة أو طيف سياسي ، ودون تغليب لطرف على آخر . 11. ألا نستجيب جميعا لبريق تأييد آخرين ودعمهم لأن هؤلاء ببساطة يعنيهم طبعا أن يستمر خطاب الصراع والتقاطع بيننا . 12. أ ن نفتح صفحة جديدة في العلاقات بين دول المنطقة ، على أن يكون هدفها الأول رفض التقسيم الطائفي والمذهبى بكل أنواعه ، وتضميد الجراح وردم برك الطائفية والتعصب لدى كل الأطراف، ورفض لغة القطيعة ، والعمل على التصالح المجتمعي عن طريق صياغة عقد اجتماعي يركز على المساواة بين الجميع وتنمية الولاء للمواطنة واستبعاد كل أسباب الخصومة الطائفية والمذهبية. 13. تنمية العمل على قواسم مشتركة ،هى موجودة بالفعل ، ولكن يحاول البعض تغييبها وقطعها بين المركز “المملكة العربية السعودية” والأطراف فى كل شعوب المنطقة ليسود منطق الصراع في كل عواصم العالمين العربي والإسلامي. قد يرى البعض أن النقاط السابقة هي نوع من الحلم يلجأ إليه فكر الكاتب هروبا من الكابوس الذى نعيشه الآن، لكنى على يقين أنه إذا توفرت إرادة الخير وشجاعة القرارلدى كل الأطراف سيتحول الحلم إلى حقيقة وتعود بنا الحياة إلى سابق عهدها في الاستقامة والاعتدال. وهنا نذكر أيضا بقاعدة فقهية أخرى نراها مهمة في ترتيب الأعمال والأفعال وهى : أن الميسور لا يسقط بالمعسور، ولا يترك المقدور بالمعذور. ومن ثم فما يجوز أن يضيع الممكن في طلب المستحيل. بالطبع أصدقاؤنا “سنة وشيعة “ لن يتركونا نقترب أو نتعقل، وسيدفعون بنا إلى الطوفان “ ولن يبخلوا علينا طبعا بمزيد من معلومات مهمة تزيد من القلق والاضطراب الذي يهدد أمننا القومى والاجتماعي والاقتصادى ومذاهبنا الدينية لتدفعنا دفعا ولتجعلنا نقفز قفزا في عالم السلاح لنشترى أحدث ما أنتجته المصانع هناك لحماية أنفسنا من أنفسنا ، وأوطاننا من أوطاننا . ونحن - والحمد لله - نقدر للأصدقاء هذا التعاطف والخوف الشديد على عقائدنا المذهبية والانحياز لقضايا أمننا الوطنى، ونثمن جهودهم العظيمة في إمدادنا بالمعلومات المفيدة والقيمة التى تساعدنا على دحر أنفسنا ، ومطاردة فلولنا ، والقضاء بنا علينا ، وتحرير وطننا منا ، وتقسيم يَمنِنَا لنا حتى نصل إلى جحيم من العداء لم يكن يوما في حسبان أحد أن يصل إلى هذا المدى حقدا وحمقا. • فهل ننتبه جميعا لشراك الاحتيال والنصب السياسي التى وضعت لاصطياد شعوب المنطقة كلها بما فيهم السنة والشيعة معا.. ؟؟