يبدو أن الفول، الذى أكله على عبد الرازق قديماً، قد انتفخ حديثاً فى بطن شخص يُقدم نفسه كباحث فى العلوم الشرعية والتاريخ الإسلامى يُدعى إسلام بحيرى، استضافه خالد صلاح فى "آخر النهار" على قناة النهار. والشيخ على عبد الرازق، صاحب الكتاب المشهور "الإسلام وأصول الحكم"، الذى أثار عاصفة هوجاء عندما نادى بالفصل بين الدين والدولة، وأن الإسلام ما كان إلا ديناً فقط. وقد نحا هذه النحو البعض أمثال الدكتور طه حسين فى كتابيه "فى الشعر الجاهلى" و"الفتنة الكبرى"، والدكتور حسين فوزى النجار فى كتابه "الإسلام والسياسة"، وخالد محمد خالد فى كتابه "من هنا نبدأ"، الذى تراجع عما جاء به من أفكار بعدما رد عليه الشيخ الغزالى وصاغ مراجعته فى كتابه "الدولة فى الإسلام". والقول بأن الإسلام دين لا دولة أطلق عليه الشيخ رشيد رضا رحمه الله عبارة "المقالة الإبليسية"، وقد ظهرت بوضوح وجرأة بعد إلغاء الخلافة العثمانية فى تركيا وظهور أصوات تنادى بجعل الخلافة فى مصر وتولية الملك فؤاد خليفة على المسلمين، فما كان من البعض إلا أن تصدوا لهذا الأمر بالقول إنه ليس فى الإسلام نظام حكم. ولأغراض سياسية معروفة ومفهومة اليوم يتصدى البعض ويطرح نفس النهج. البحيرى ينفى عن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم صفة السياسى ورجل الدولة ، ومونتجومرى وات يعارض هذا الادعاء الخبيث ويؤلف كتاباً رائعاً يعترف فيه بالدولة فى الإسلام وبقيادة الرسول ووظيفته السياسية كرئيس دولة فى كتابه "محمد النبى ورجل الدولة". وبناء على تصوراته فى هذا الكتاب قرر وات فى كتاب آخر وهو "المفاهيم الأساسية للفكر السياسى الإسلامى"أن الإسلام سوف يصبح عام 2000م أحد القوى المتميزة والمسيرة لهذا العالم. المفكرون فى الغرب أيضاً أنصفوا النظام السياسى الإسلامى ونظرية الحكم فى الإسلام أمثال الألمانية زيجريد هونكة وروجيه جارودى ومراد هوفمان وتوينبى وموريس بوكاى وبرناردشو، وهذا ما زاد القضية روعة وجمالاً عندما دافع عن الفكرة وسلط عليها الأضواء فلاسفة الغرب ورجال فكره إلى جانب الرصيد الضخم الذى تركه الفلاسفة والمفكرون المسلمون. وبعد هذا الجهد العالمى، وهذا الإنتاج الضخم الذى شارك فيه مفكرو وفلاسفة العالم كله، يخرج باحث "عن الشهرة" ليكرر سرد بعض الأفكار الساذجة التى نسفها عظام مفكرى الكون فى مؤلفاتهم وكتبهم الخالدة. تعرض بحيرى لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فينكر أنه مارس نوعاً من السياسة طوال وجوده فى مكة لدرجة أن أحاديثه جميعها كانت فى المدينة، وهى أحاديث ومواقف نبى مؤيد بالوحى وليس زعيمًا سياسياً ورجل دولة – بحسب زعمه!! وهذا منطق سطحى صبيانى لم أسمعه ولم أقرأه من قبل؛ فحتى فى الفترة المكية التى لم تشهد قيام ملامح الدولة والحكم الإسلامى مارس الرسول صلى الله عليه وسلم السياسة من مقعد المُعارض والمتمرد والثائر على الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية السائدة فى ذلك الوقت، والنبى صلى الله عليه وسلم عاش فى مكة ثلاثة عشر سنة ولم يكن حراً منعماً، إنما طريد مطارد مطلوب الرأس، محروم من الطعام، يدافع ويناور ويهاجم ويتخذ الحلفاء ويقوى موقفه بالتعاون مع شخصيات قوية ذات ثقل اقتصادى واجتماعى وسياسى، وكلها ممارسات سياسية لا يقوم بها مجرد رجل دين أو نبى جاء لمهمة روحية وفقط.