تحدثت في المقال السابق عن تسعة مكونات أساسية لابد من توافرها في أي نظام تعليمي ناجح. أول هذه المكونات هو التنمية المهنية الجيدة للمعلمين التي اعتبرها المتخصصون سببًا رئيسيًا في النجاح الكبير الذي حققته بعض الدول و تربعها على قمة المؤشر العالمي للتعليم. التنمية المهنية-النموذج الأول فنلندا لقد كان للتنمية المهنية فى فنلندا دور رائع فى التحول الهائل الذى شهده النظام التعليمي الفنلندي ، فأصبح المعلم الفنلندي يحظى بثقة واحترام شديديين من المجتمع والمؤسسات فى فنلندا. ففى مقال لجورج مالاتى Goerge Malaty الأستاذ بجامعة جونسوJoensuu الفنلدية نشره مركز الإبداع فى تعليم الرياضيات التابع لجامعة Plymouth تحدث فيه عن أسباب تفوق فنلندا وحصولها على مراكز متقدمة فى البرنامج العالمي لتقييم الطلاب PISA، أدهشت المهتمين بالتعليم داخل فنلندا و خارجها ، وقد حدد جورج فى مقاله خمسة أسباب لتفوق فنلندا فى التقييمات العالمية، الثلاثة الأولى منها تتعلق بالتنمية المهنية للمعلمين وهى :1- النجاح فى إعداد المعلم قبل الخدمة 2- ثقافة مهنية التدريس 3- النجاح فى تدريب المعلمين أثناء الخدمة . بالنسبة لنجاح فنلندا فى إعداد الطالب- المعلم قبل الخدمة فيرجع ذلك كما يقول جورج إلى عاملين : أولهما: الحفاظ على مستوى عالي من تأهيل المعلمين ، و الأخر: قدرتهم على جذب الطلاب المتحمسين للمهنة وأصحاب الميول التعليمية للالتحاق بكليات إعداد المعلمين .أما بخصوص ثقافة مهنة التعليم فى فنلندا ، فيذكر جورج أن المعلمين الفنلنديين يؤمنون برسالة التعليم وأهميته ليس فقط للطلاب بل لأنفسهم أيضًا ، ومن ثقافة المعلم أنّ لا رقيب ولا حسيب عليه ، وهو من يحدد المنهج والوسائل والطرق المناسبة لتعليم وتقييم طلابه . كما أن المجتمع الفنلندي ينظر الى التدريس على أنه مهنة نبيلة ومرموقة أخلاقياً ومادياً كالطب والإقتصاد و يرجع نجاح فنلندا فى تعليم المعلمين وتدريبهم أثناء الخدمة إلى أنّ برامج التدريب والإعداد منظمة بشكل جيد مع وجود منظمات وهيئات عدة تقدم برامج تدريبية مختلفة ، فهناك برامج يقدمها المجلس الوطنى للتعليم ، وأخرى تقدمها الجمعيات المختلفة للمعلمين ، كجمعية معلمي الرياضيات ، وجمعية معلمي الصفوف الأولية ، وجمعية معلمي اللغات الأجنبية ... الخ ، كما يوجد فى كل جامعة مركز تدريب للمعلمين ، وفى كل مقاطعة يوجد جامعة صيفية لتأهيل المعلمين وتدريبهم أثناء الخدمة ، هذا بالإضافة إلى مراكز التدريب الخاصة التى تقدم برامج مختلفة للمعلمين، وجدير بالذكر أن بعض هذه البرامج مجاني ، وبعضها الآخر بمقابل مادي قد يتحمله المعلم، أو قد يحصل على دعم مادي من مدرسته . وفى بحث نشره مركز ستانفورد لسياسات الفرص فى التعليم Stanford Centre For Opportunity Policy In Education بعنوان (سر نجاح فنلندا : تأهيل المعلمين ) جاء فيه أنّ الباحثين من كل أنحاء العالم أتوا إلى فنلندا فرادى وجماعات لدراسة ما أطلقوا عليه المعجزة الفنلندية (Finnish Miracle) ، كيف لدولة كانت ذات نظام تعليمي متواضع فى ثمانينيات القرن الماضي أن تقفز على قمة الهرم التعليمي العالمي فى غضون عقود قليلة ؟ ولقد أرجع الباحثون ذلك إلى عدة أسباب، إلا أنهم جميعًا أقروا أن الورقة الرابحة، والسبب الرئيسي لتربع فنلندا على عرش التعليم العالمي هو معلموها الممتازون . وقد أصدرت وحدة التعليم بالبنك الدولى عام 2006 كتاباً بعنوان (تطوير السياسات ومبادئ الإصلاح فى التعليم الأساسي والثانوي فى فنلندا منذ 1968 (Policy Development and Reform Principles of Basic and Secondary Education in Finland Since 1968) كان الغرض من هذا الكتاب معرفة العوامل التى وضعت فنلندا على قمة مجموعة دول منظمة التعاون الإقتصادى والتنمية OECD فى تقييمات البرنامج العالمي لتقييم الطلاب PISA متفوقة بذلك على دول مثل ألمانيا،و اليابان، ولقد حدد الكتاب خصائص ست فى النظام التعليمي الفنلندي تفسر لنا سبب الأداء الجيد لهذا النظام . أحدها: امتلاك النظام التعليمي الفنلندي لمعلمين جيدين ومحترفين يتمتعون بقدر معقول من الاستقلالية داخل الفصل فى اختيار طرق التدريس والتقييم ، هذا فضلاً عن آلية اختيار الطالب للالتحاق بكليات إعداد المعلمين ، حيث يتقدم كل عام حوالى خمسة ألاف طالب للالتحاق بهذه الكليات، ولا يُقبل منهم إلا 10% فقط، هم من يجتازون الاختبارات والمقابلات ومن يظهرون مستوى عاليّا من الاستعداد والمعرفة والمهارات . ويشترط التعليم فى فنلندا الحصول على درجة الماجستير من إحدى الجامعات الفنلندية أو الأوروبية حتى يكون مؤهلاً للحصول على وظيقة دائمة ، والكثير من المعلمين يحصلون على درجة الدكتوراه أثناء الخدمة ،والمعلم فى فنلندا مستهلك واع وناقد للتنمية المهنية والتدريب أثناء الخدمة ، فقد اختفت البرامج الإلزامية التقليدية للتدريب أثناء الخدمة وحل محلها برامج تدريبية طويلة الأجل تنظم على مستوى المدرسة، أو البلدية ، فتطوير المهارات التعليمية للمعلمين تحوّل من كونه إلزاميًا إلى كونه حق للمعلمين ، وقد انعكس هذا التحول فى أساليب وأحوال تأهيل المعلمين على آداء وتعلم الطلاب داخل الصف . فمن الضرورى أن تتضمن برامج إعداد المعلم نوعين من المعارف : الأول: المعارف التى يمكن أن يتلقاها المعلم من القائمين على إعداده Received Knowledge، فيعرف الألفاظ، والمصطلحات،والمفاهيم الرئيسية وما توصلت إليه الأبحاث التربوية ، والنظريات وكل ما اتفق عليه خبراء المجال على أنه محتوى فكري ضروري لمهنة التعليم ، والنوع الثانى: المعرفة التجريبية Experiential Knowledge حيث يطور المعلم معارفه بممارسة العمل ووضع المعارف النظرية موضع التجريب العملي، و التفكير فى مدى ملائمتها وفاعليتها . فما الذى يجب مراعاته إذن من القائمين على برامج التدريب قبل وأثناء الخدمة في مصر حتى يمكنهم مساعدة الطالب- المعلم فى اكتساب المعارف التى يتلقاها منهم، إن فاقد الشيء لا يعطيه ، فالمعلمون المتدربون بطبيعتهم ناقدون لمستوى التدريب الذي يتلقونه، فهم يتوقعون أعلى المعايير التدريسية من القائمين على البرامج ، فلنأخذ مثلاً برنامجًا تدريبياً للمعلمين عن كيفية التعامل مع الفصول كثيفة العدد، وتقسيم الطلاب إلى مجموعات تفاعلية صغيرة وكبيرة ، فيجب أنْ يجد المعلمون المتدربون أنفسهم كفصل كثيف العدد يتم تنظيمه والتعامل معه بالطريقة التى يدعو إليها التدريب، فبهذه الطريقة فقط يمكن للمعلمين الاستفادة من البرنامج واقتناعهم بإمكانية تطبيق استراتيجياته على أرض الواقع ، فلا يمكن للمدرب أن يكسب الطالب - المعلم معارف ومهارات لا توجد لديه ولا يمارسها معهم ، وعندما يصبح هذا الطالب معلماً لن يمكنه نقل هذه المعارف والمهارات لطلابه لأنه لم يتقن طريقة نقلها الصحيحة ، فكيف يمكن لمعلم أن يصمم دروسه لتخاطب أساليب التعلم المختلفة، و الذكاءات المتعددة لدى طلابه ومن قام على إعداده فى كليات إعداد المعلم، أو في مراكز التدريب أثناء الخدمة لم يمارس ذلك فعلياً معهم؟! فأساليب التعليم الجيدة، وأساليب التعلم الجيدة وجهان لعملة واحدة، ويكمل كل منهما الآخر . سامي هنداوي ليسانس الآداب و التربية جامعة الاسكندرية، دبلومة طرق التدريس من جامعة استراثكلايد_ اسكتلندا ، دبلومة متقدمة في تعليم اللغات من جامعة ايتون الأمريكية. [email protected] 01286698820