يقيني الذي لا يتزعزع أن الخلاص من الأزمات في دول الاستبداد هو في الديمقراطية، بأن تقرر الإرادة الشعبية ما تريده عبر تداول السلطة بشكل سلمي من خلال انتخابات تنافسية حرة نزيهة، ليأتي من يقود الشعوب، ومن يمثلونها في الهيئات التشريعية المختلفة بالاختيار الحر، وينصرفون بنفس الطريقة، لا حكام مؤبدين في السلطة، ولا برلمانات جاءت بالتزييف، ولا احتكار للقرار في أيدي نفر قليل لم تخترهم شعوبهم وفق آليات الديمقراطية فيحكمون كما يشاؤون، لا كما تشاء الشعوب. من يأتي للسلطة بالصندوق فلن يتخذ قراراً إلا إذا كان في صالح بلده وشعبه لأنه يدرك تبعات وقسوة المحاسبة لو كان أداؤه وقراره لا يحقق مصالح وطنه، ومن يحكم باعتباره أباً لشعبه، أو وصياً عليه، أو أنه وحده العارف بالمصالح الوطنية فلا ضمان لصوابية قراره، وهذه الحالة الاحتكارية للسلطة تتجسد في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية المتخم بالأزمات والتخلف والحروب، ونقيضها في غالبية بلدان النصف الشمالي، حيث العالم الديمقراطي الحر الذي يقطف ثمار ديمقراطيته من حاكم لآخر، ومن حكومة لأخرى. تُوصف إسرائيل في الخطاب السياسي والشعبي الغربي بأنها ديمقراطية وحيدة وسط صحراء قاحلة من الديكتاتوريات، ورغم كونها دولة استعمار وحشي، وديمقراطيتها تتسم ببعض العنصرية والتمييز تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون داخلها، لكن ديمقراطيتها تجعل شعبها يختار قادته، ويقرر رحيلهم أيضاً، ولولا ذلك ما كان هناك رابط يجمع كل الشتات الذي يتكون منه مجتمعها ليظل منتظماً كالعقد دون انفراط، علاوة طبعاً على هاجس الخوف الملازم لهم والنابع من كونهم مجتمع ودولة احتلال لا يشعرون باستقرار حقيقي في أرض يغتصبونها. بدون النهج الديمقراطي من كان سيحكم هذا الكيان الخليط غير المتجانس؟، هل بالاستبداد، أم بالانقلابات العسكرية؟، لو كان وضعها شبيهاً بالحالة العربية المحيطة بها من كل الجهات ما كانت استطاعت البقاء هذه العقود، وما كانت حققت تقدماً عسكرياً وصناعياً وزراعياً، ومع اقتناعنا بدور الغرب في دعمها وتثبيت وجودها وحمايتها، لكن هذا الدور وحده وبدون النظام الديمقراطي لم يكن يسمح لها بالبقاء طويلاً، ومقابل تعامل العالم الحر مع الدولة العبرية باعتبارها ديمقراطية، فإن تعامله مع البلدان العربية والإسلامية محكوم بمسألة المصالح فقط، وإذا جاء الحديث عن الديمقراطية تقفز ملفات قمع الحريات، وانتهاك حقوق الإنسان، وتكميم الأفواه، إلى الواجهة. الديمقراطية تزداد تطوراً في حاضنتها الأولى والأساسية في الغرب، لا نكوص عن مسارها، ولا التفاف على مواعيد استحقاقاتها ونتائجها، والقبول بكل مخرجاتها، وفي أوروبا 2017 كان الصعود الكبير للأحزاب اليمينية القومية والنازية المتطرفة في أكثر من بلد، ورغم ما يمثله ذلك من مخاطر إلا أن الجميع هناك يحترم ما تفضي إليه الصناديق من اختيارات شعبية، بل تُمنح تلك الأحزاب الفرصة للمشاركة في الحكم، وفي تقديري أن أحد بنود علاج التطرف السياسي يكون بالديمقراطية، وليس بالقمع، مادام هناك قبول بدولة القانون والدستور، والإيمان بالمسار الديمقراطي واحترام نتائجه وعدم الانقلاب عليه. في الغرب يتعايش المعتدلون مع المتطرفين سياسياً، ويتنافسون، والجمهور هو الحكم، ومن يخرج عن القانون تكون المحاسبة القاسية، لذلك يبقى التطرف هناك تحت السيطرة، ولو كانت جرت مواجهته بالتنكيل والسجون ما كانت المجتمعات شهدت تعايشاً وتوافقاً وسلاماً واستقراراً وازدهارا. ً بدأ 2017 بانتخابات تشريعية في هولندا، ثم رئاسية في فرنسا، وبعدها تشريعية في النمسا، فألمانيا، أربع محطات مهمة، ولم تكن هناك شكوى واحدة مسجلة فيها بحدوث خروقات، وجاءت الأحزاب المتطرفة في مراكز متقدمة، وبقدر ما كانت النتائج مقلقة بسبب عنصرية وعدوانية خطابات وبرامج المتطرفين إلا أنه في ظل احترام قواعد اللعبة فإن الحياة السياسية تتواصل وتزدهر، ولا تتهدد البلدان والمجتمعات في تماسكها حتى لو شاركوا في الحكم كما جرى في النمسا مؤخراً. في إفريقيا القارة الأسوأ عالمياً في سجل الديمقراطية بزغ ضوء من بعيد في ليبيريا عبر تداول سلمي للسلطة بعد انتهاء فترتي حكم الرئيسة إلين جونسون سيرليف، فاز بالرئاسة لاعب كرة القدم السابق جورج ويّا، وخسر أمامه نائب الرئيسة المنتهية ولايتها، وتلك محطة جيدة تُضاف إلى محطة أخرى سبقتها في كينيا، حيث جرت انتخابات رئاسية أبطلتها المحكمة العليا ثم أعيدت، لكن مرشح المعارضة انسحب منها لعدم الاستجابة لمطالبه في تغيير أعضاء اللجنة الانتخابية، كان الأمل في إزالة كل ما تشتكي منه المعارضة بتوفير كل متطلبات عملية انتخابية ديمقراطية وفق المعايير العالمية، لكن خطوة كينيا يمكن البناء عليها لو كانت هناك إرادة للسير نحو بناء حكم ديمقراطي. وجاء تدخل الجيش في زيمبابوي لينهي حكماً طويلاً للديكتاتور موجابي، ولولا ذلك ما كان غادر السلطة، وهو الرئيس الذي خلفه، وهو نائبه السابق، إما أن يستوعب الدرس وينتقل بالبلاد نحو الديمقراطية، أو ينتكس أمل التغيير، وتستمر الديكتاتورية لكن بوجه جديد، تتوفر حالياً فرصة ذهبية نخشى ألا يستثمرها لصالح المستقبل لإنقاذ بلاده بعد 37 عاماً من الطغيان، ومن الأمل إلى الإحباط في أوغندا حيث يتشبث الرئيس موسفيني بالبقاء في السلطة بالتعديلات الدستورية الأخيرة التي تتيح له الترشح مجدداً ليتجاوز أربعة عقود في الحكم بلا نتيجة إيجابية لشعبه، لماذا لا يقرأ درس زيمبابوي؟. عربياً، لا شيء يمكن أن يُقال، باستثناء بارقة أمل في 2017 بزغت من المغرب التي شهدت انتخابات تشريعية حرة جاءت بالإسلاميين لقيادة الحكومية للمرة الثانية في ظل ملكية مستنيرة منفتحة إصلاحية، غير ذلك فإن فرص الديمقراطية الجادة نادرة وعزيزة رغم زلزال الربيع العربي وحتى لو كان قد انتكس فإن درسه لا ينتكس.