سعداء بتوقيع اتفاق سلام في ليبيا بين المعسكرين المتنازعين على السلطة، والمتقاتلين أيضا. نتمنى أن يصمد هذا الاتفاق، وينهي كل أزمات ليبيا، لتعود بلدا موحدا برأس واحدة فقط في الحكم، وتبدأ بناء ديمقراطية، لأن البديل هو ديكتاتورية جديدة، أو فوضى وتقسيم وتفتيت لهذا البلد. لكن مما يؤسف له أنه قبل وبعد توقيع الاتفاق فإن السهام تُصوب ناحيته، والرفض يتوالى ضده من جانب شخصيات من المعسكرين، ما يعني افتقاده للإجماع والتوافق الكامل، وفي انتظار موقف قوى الاحتراب على الأرض لأنها الأساس في إنجاح الاتفاق، أو إفشاله عبر استمرار الاقتتال، وعدم تمكين مؤسسات الحكم المنبثقة عنه من البدء في عملها. 14 شهرا من المفاوضات حتى يتم انتاج اتفاق، ومع ذلك لا يحظى بقبول عام، لماذا تلك الأشهر الطويلة؟، لا توجد أزمة داخلية مهما كانت تستحق كل هذا الوقت للتوصل لصيغة تقاسم السلطة إذا حسنت النوايا، وتوفرت الرغبة في الحل وتقديم التنازلات، هذا التناحر الداخلي يمنح الفرصة للأطراف الخارجية لمواصلة اللعب على مساحة الاختلافات والتناقضات لتنفيذ أهدافها. فشل الاتفاق يعني البدء بالتجهيز للتدخل العسكري لمنع تمدد تنظيم داعش والقضاء عليه، هذا أكثر ما يشغل بلدان أوروبا وأمريكا ودول الجوار، وقد نجد روسيا أيضا في الساحة منفردة، أو ضمن تحالف دولي باعتبار أنها مهددة من الإرهاب، ولو كان مكانه بعيدا جدا عنها. إذا تدخل المجتمع الدولي عسكريا ونجح في تنصيب حكومة تحت وصايته ستكون وظيفتها فرض الأمن ولو بالقوة المطلقة، ومنع الهجرة إلى أوروبا، وإذا فشل خيار تنصيب حكومة فإن التقسيم سيكون مآل ليبيا، وستكون هناك مخاوف من تبدد ثرواتها، وتشرد شعبها مثل الشعوب العربية الأخرى المنكوبة، وهى كثيرة، كما أن القلق سيتصاعد لدى دول الجوار. هل من طول فترة خضوع وتعايش البلدان العربية مع الحكم المستبد صار هو علاجها الوحيد؟، هو الداء والدواء، هو الحكم الوحيد القادر على ضبط حركتها في مسار لا يخرج عنه أحد، هل يبقى الاستبداد هو النموذج الأنسب لحفظ كيانات الدول وتوفير الأمن والاستقرار للشعوب؟، هل البديل الديمقراطي يثبت عدم نجاعته، ويؤكد أن بناء الديمقراطية وصفة غير معتادة عربيا ولا تجد لها تربة ملائمة تنبت وتزدهر فيها؟، هل حكم الفرد والسلطوية التاريخية بمختلف أشكالها سدت شرايين المجتمعات وجعلت سريان أفكار الحرية والديمقراطية فيها مستحيلا أو شبه مستحيل؟. الحقيقة المؤلمة أن الديمقراطية لم تُزهر في أي بلد عربي، حتى تونس التي نتفاخر بتجربتها فإنها مهددة بقوى قديمة تتربص بالتجربة، وبقوى دينية متطرفة تكره الديمقراطية وتكّفرها، وبأزمات داخلية اقتصادية واجتماعية معقدة. الديمقراطية ليست مجرد استحقاقات انتخابية منتظمة حتى نقول مع إنجاز كل استحقاق منها أننا ديمقراطيون، التصويت مجرد مظهر فقط، إنما الإيمان بالفكرة والتجربة والنموذج من كل القوى الفاعلة في السياسة والمجتمع والمؤسسات هو الأساس المتين لها، والاحتكام لقرارها مهما كانت الخلافات بين الفرقاء، ورفض أي بديل آخر عنها مهما كان مغريا في وقته هو أحد أطواق النجاة من الانقلاب عليها أو التضحية بها. الديكتاتوريات العربية جرفت أرض السياسة، وخضّرت أرض الأمن والقمع والصوت الواحد، والشعوب تعيش في ظل تلك المنظومة منذ عقود طويلة، ومع الفقر والجهل وغياب الوعي لدى القطاعات الواسعة منها فإن فكرة الديمقراطية وتحمّل عوارضها والقبول بمخرجاتها تبدو غريبة على تلك الشعوب، وتبدو مرفوضة من قوى رعاية السلطويات والارتزاق منها وبناء شبكات المصالح معها، ولهذا ستكون الطريق طويلة وصعبة ومعقدة حتى يحدث التحول إلى التداول السلمي للسلطة والقطيعة مع الحكم الفردي والشمولي والسلطوي وكل نوعيات مخلفات الحكم التي ودعها العالم الحر وودعتها كتل جغرافية كانت تعيش ظروفنا أو أصعب منها. قبل أيام مثلا تابع العالم مشهدا كان يصعب تصديق حدوثه يوما في هذا البلد لتاريخه الطويل في الديكتاتورية، فقد غادرت رئيسة الأرجنتين المنتهية ولايتها كرستينا فيرنانديز قصر الحكم، كان المشهد دالا وهى تخرج من الباب مودعة 8 سنوات حكمت فيهم البلد لفترتين في انتخابات حرة، ولوح لها المواطنون فرحا بما أنجزته وتقديرا لها، ولم نجد أصواتا برلمانية تطالب بتعديل الدستور لتبقى فترة ثالثة، أو فترات مفتوحة، أو زيادة مدة الرئاسة تحت مبررات كاذبة وشديدة النفاق، وبعد خروجها إلى بيتها لتعود مواطنة عادية، دخل القصر الرئيس الجديد المنتخب ماوريسيو ماكري، هكذا تُبنى البلدان في ظل ديمقراطيات جادة، وليس في ظل ديمقراطيات شكلية هدفها التمكين ثم البقاء بجولات انتخابية منتظمة، لكنها شكلية حيث لا يُسمح بوجود معارضة فعالة ونشطة ومتنوعة، وتُصادر الحريات، وتُكمم الأفواه، ويُنشر الخوف، وتُزرع الكراهية، ويتغول الأمن، وتدور أجهزة الدعاية بقوة لصناعة الفرعون، ويتم تثبيت فكرة أنه لابديل عنه، وفي ظل ذلك الانتهاك السياسي والفكري والثقافي، وفي ظل انتهاز دائم لحاجات الناس في لقمة العيش والأمن فإن الشعوب لا تجد غير تسليم أقدارها مضطرة أو مخدوعة أو مستلبة أو مضللة للحاكم الفرد. ليست الارجنتين وحدها التي تحررت من هذا الإرث الثقيل، بل كل دول أمريكا الوسطى والجنوبية والكاريبي، الديمقراطية تزدهر هناك، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية تتراجع، وتشهد كثير من بلدانها نهوضا ونماذج تنمية مبشرة. طريق العرب لتأسيس نماذج حكم ناجحة سياسيا وتنمويا لن يكون بغير السير في طريق نظراءهم بأمريكا اللاتينية، ومن المفارقات أن الطرفين يعقدون اجتماعات مشتركة متبادلة كل عامين، لكن الطرف العربي لا يريد أن يرى الجانب السياسي الناجح عند من يجلس أمامه على الطاولة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.