مطلع ديسمبر الماضي صوتت غالبية الشعب في جامبيا -وهى دولة أفريقية صغيرة مثل الجيب داخل السنغال، وتطل على المحيط الأطلنطي - لصالح مرشح المعارضة للرئاسة أداما بارو، ووجهت صفعة الرفض للحاكم المستبد يحيى جامع. وكانت نتيجة الانتخابات مفاجأة كبرى، فهذا البلد محكوم بقبضة من حديد من جامع منذ انقلابه العسكري الأبيض عام 1994، وهو الفائز دوما في كل الانتخابات، كما في أي بلد محكوم بنظام استبدادي، والقارة كلها كذلك، إلا من بعض الاستثناءات، فالأصل في إفريقيا هو حكم الفرد، بالقوة القاهرة، ولو تمزقت البلاد في حروب أهلية، وصراعات داخلية تهبط بها إلى مزيد من البؤوس الذي تعيش فيه، وإذا كانت قارات العالم الأخرى الخمس تقدمت كثيرا على طريق التطور الديمقراطي والنهوض الاقتصادي والاجتماعي وتكريس حقوق الإنسان، فإن إفريقيا مازالت تقبع في ظلام التصحر الديمقراطي، والتخلف الاقتصادي، والتدهور الاجتماعي، وسحق الإنسان، وانتهاك حقوقه، والعصف بكرامته. أوروبا وأمريكا الشمالية لهما السبق في التأسيس للعالم الحر، وانتهاج الديمقراطية نمط حياة سياسية ونهج حكم لا عودة عنه، بل يخضع للتطور للأفضل باستمرار، وإذا كانت أستراليا هى الدولة القارة التي تسير على طريق الغرب الديمقراطي، فإن شركاء إفريقيا في التخلف على كل المستويات، أمريكا الجنوبية وآسيا، قد أفلتت معظم دولهما من حزام التخلف، وتجتهد لتدخل حزام الديمقراطية والحريات، وتلك البلدان لم تنهض وتحقق معدلات نمو جيدة وتوفر قدرا معقولا من العيش الكريم لشعوبها إلا عندما أحدثت القطيعة مع الانقلابات والحكم السلطوي واحترمت إرادة شعوبها في اختيار من يحكمها ليس لمرة واحدة، إنما صار ذلك مبدأ ونهجا تسير عليه، إلا إفريقيا التي تعاند كثير من دولها حركة التاريخ والمد الديمقراطي، ولا تريد أن تستوعب دروس الذين وصلوا إلى قناعة نهائية بأن الاستبداد يقود البلدان إلى الهاوية، ويجعل شعوبها فقيرة جائعة جاهلة مريضة. جاءت ل جامبيا فرصة تاريخية لتكون دولة ديمقراطية، وبعد أن حدثت المفاجاة عندما أقر الرئيس الخاسر يحيى جامع بهزيمته، وهنأ مرشح المعارضة، وسرت حالة من السعادة بأن بلدا إفريقيا سيشهد تداولا للسلطة عبر الآليات المدنية الديمقراطية المتحضرة، وليس عبر الآليات الأخرى من الانقلابات أو الحروب الأهلية المنهكة، عاد جامع إلى طبيعته الأصلية كحاكم إفريقي مخلص لجينات الديكتاتورية فسحب إقراره بالهزيمة مدعيا حدوث تدخلات في الانتخابات والفرز ورفع قضية، وكل ذلك كان مجرد مبرر ،مثل أي مستبد، للبقاء في السلطة، وعبثا حاول قادة مجموعة غرب افريقيا إقناعه بتسليم السلطة بشكل طبيعي والخروج الآمن، لكنه ظل يماطل ويتلاعب حتى انتهت فترة حكمه يوم 18 يناير الجاري، وقامت السنغال بالدور الأبرز في ممارسة الضغوط على جامع إفريقيا ودوليا لإنقاذ البلاد من أزمة بلا معنى، لكنه أبى، وحتى الوساطة التي قام بها رئيس موريتانيا فشلت، لذلك أصدر مجلس الأمن قرارا يسمح لمجموعة دول غرب إفريقيا بالتدخل السياسي السلمي لإرغام جامع على تسليم السلطة، القرار كان غطاء لإمكانية التدخل العسكري لو فشلت الجهود السياسية، وهو ما حصل بالفعل، فقوات أربعة دول دخلت جامبيا إلى جانب السنغال وهى نيجيريا، وتوجو، ومالي وغانا. وكانت السنغال عملية عندما سهلت لمرشح المعارضة الفائز دخول أراضيها، ومكنته من أداء اليمين رئيسا في سفارة جامبيا موفرة شكلا قانونيا لتلك الخطوة، وتم ذلك بضوء أخضر من دول غرب إفريقيا، ومن أمريكا والغرب والمجتمع الدولي والأمم المتحدة حيث أقروا جميعا بشرعية بارو كفائز بالانتخابات، وأحقيته أن يكون رئيسا، وغالبا جاء التدخل العسكري في جامبيا بطلب من الرئيس الجديد عقب حلفه اليمين. انتهى جامع، وسيخرج من جامبيا في أسوأ مشهد لرئيس سابق متمرد على إرادة شعبه، وكان يمكن أن يخرج مرفوع الرأس، ويدخل التاريخ رغم استبداده، لو كان سلم السلطة في احتفال شعبي ورسمي أمام العالم في مظهر حضاري مقدما درسا لحكام آخرين، ووضعهم في حرج أمام شعوبهم والعالم، لكنه أثبت أنه عسكري متواضع التفكير، ومحدود الفهم، ولم يستوعب رسالة جيرانه، ولا العالم ، ولا التحذيرات التي وصلته بأنه لن يبقى في السلطة يوم واحد بعد نهاية ولايته، وحتى قائد الجيش الذي اعتمد عليه تخلى عنه حيث فهم الرسالة، وكان أذكى منه. غباء جامع سقط فيه لوران جباجبو رئيس كوت ديفوار السابق الذي تمسك بالحكم، ومنع الحسن وترة الفائز في الانتخابات من تسلم السلطة، وكان أن خرج من القصر الجمهوري بالقوة والمهانة على أيدي قوات فرنسية خاصة، وصوره التي لفت العالم خلال اعتقاله بملابسه الداخلية، كانت كفيلة ل جامع ليدرك أن هيلمان السلطة وبريقها لا يساويان تلك اللحظة من الإذلال. العالم الحر احترم أداما بارو، وساعده ليكون رئيسا لأنه منتخب من شعبه، لكنه لا يحترم أي حاكم آخر يصل للحكم بغير طريق الانتخابات الحرة، أو بانتخابات مزورة، أو مشكوك فيها، ولا يعني أن العالم يتعامل مع المستبدين أنه يحترمهم، هو يبتزهم لأجل مصالحه، ولما ينتهي دورهم فإنه يترك ورقتهم تسقط، أو يحرقها. نعم للديمقراطية، وإرادة الشعوب، ولتكن جامبيا درسا جديدا لمن يريد أن يتعلم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.