حال عطل في تقانة الإتصال من ظهور مقال السبت الماضي، وكان عن الانتخابات التشريعية المصرية، وقد حرصت علي متابعتها ميدانيا علي أمل أن تكون الكتابة من قلب الحدث أكثر دقة وعمقا، وخلال الأسبوع الأخير ظهرت نتائج المرحلة الأولي وتكشفت حقائق ما كانت غائبة إلا أنها بدت أكثر سفورا، ومن أهم دلالات هذه النتائج أنها انهت وهم حدوث التغيير والإصلاح السياسي، في ظل نظام حكم يعاني من تصلب حاد في شرايينه، ومعارضة تعيش حالة موت سريري.. ووضع سياسي مترد وواقع اجتماعي عاجز عن كبح جموح المال والفساد والإفساد، وذلك كله جاء نتاجا لرغبة رجال المال والأعمال الجامحة في الاستيلاء علي السلطة وممارسة الحكم بشكل مباشر، بالاستوزار وإدارة ماكينة التشريع في مجلس الشعب القادم، فالزواج، غير الشرعي، الذي جري بين المال والسياسة أفسد المال ولوث السياسة، وفي مجتمعات الاقتصاد الحر، التي يتشبه بها رجال الأعمال المصريون يتم الفصل تماما بين النشاطين، وفور أن تطأ قدم رجل الأعمال الغربي أرض السياسة يتم الفصل بينه وبين نشاطه المالي والتجاري، عن طريق القوانين الصارمة التي تحد من جموح المال وتجبر رجال الأعمال. أظهرت المرحلة الأولي جموحا واكتساحا للمال أثار قلق أوساط سياسية واجتماعية عديدة إلا أنها كشفت أن القوي الوحيدة التي استطاعت أن تحقق نجاحا كانت جماعة الإخوان المسلمين، وهذا النجاح، الذي حسب لها، كان حصيلة معركة غابت عنها السياسة والبرامج والمبادئ.. كان المال هو العامل الحاسم، وجاء الوزن المالي للإخوان وحجم أموالهم واستثماراتهم كأهم عامل من عوامل هذا النجاح، وبالقطع لن ينسينا هذا عوامل أخري، جاءت في مراتب تالية، هي الكراهية الشديدة التي يحملها المصريون لنظام الحكم، وقد لمست هذا بنفسي عندما كنت أسأل البعض وهم في الطريق إلي لجان التصويت، فكان ردهم، بلا مواربة، أنهم ذاهبون لاختيار أي حد غير الحزب الوطني ، بالإضافة إلي تأثير عصبيات الريف وانحيازها إلي أبنائها من مرشحي الإخوان. مع بعض البسطاء الذين أعطوهم أصواتهم لأنهم بتوع ربنا ، معني هذا أن السياسة كانت غائبة بشكل كامل، وانتخابات بلا سياسة مثل الجسد بلا روح. وجاء الوزن المالي لعائلة مبارك ومواليها وأعضاء الحزب الحاكم ورجال الأعمال المنشقين عليهم ليقابل بوزن مقابل من الجماعة ليقيم معادلة أقلقت كثيرين، بعضهم متعاطف مع الإخوان، وخطر هذه المعادلة أنها قد تحدث توافقا في المصالح وتضع الإخوان في خندق حسني مبارك وعائلته ومواليه، لما لذلك من أثر سلبي علي مجمل الحياة السياسية المصرية، ويري بعض الخبراء أن العلاقة التي تقيمها المصالح المالية كثيرا ما تهزم الشعارات والمبادئ والعقائد، وقد عبرت بعض الأوساط الأكاديمية المسيسة عن مخاوفها، أثناء عملية تبادل رأي حول نتائج انتخابات المرحلة الأولي، والذي إذا ما استمر فيه لفوز الإخوان بهذا المعدل فقد يصل عدد مقاعدهم إلي مئة مقعد بنهاية المرحلة الثالثة للانتخابات، وعندما قيل ان مجال الصفقات الاقتصادية مع الإخوان محدود بسبب خدمة رجال الأعمال للمصالح الأمريكية والصهيونية، وربط مصيرهم بخدمة الاقتصاد الصهيوني، وتجاوزوا بذلك وظيفتهم في تنمية الاقتصاد المصري. فحجم التنازلات والتصفيات التي تمت للمشروعات الكبري والعملاقة.. الصناعية والزراعية والخدمية، لم يبق علي شئ يغري بالصفقات. قال أحدهم يبدو أن الناس نسيت ما يدبر للمصارف الحكومية الكبري، ومصانع الحديد والصلب في حلوان، بل أكثر من هذا نسوا قناة السويس المعدة للبيع، هؤلاء الناس لا يعلمون ما يجري لمجمع ميدان التحرير الحكومي، المبني الأكبر في المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط، الذي تم إخلاؤه بدعوي تخفيف الزحام، والهدف هو منحه للصوص المال والأعمال، لراغبين في تحويله إلي فندق، وهناك كلام عن قيام جمال مبارك بتيسير عملية نقل الملكية دون تعقيدات، ولتذهب مصالح الناس الذين كان يخدمهم المجمع ويوفر عليهم مشقة الانتقال إلي أكثر من حي ومدينة لقضاء المصلحة. وقال المتحدث ان الناس نسيت النيل وخطوات بيع مجراه التي بدأت من مدة، ونسيت ما يخطط لبحيرة ناصر العملاقة وراء السد العالي وغيرها من الموارد الطبيعية، منذ أن وضعها عاطف عبيد، رئيس وزراء مصر السابق في سجل الأصول الواجبة التصفية بطريق البيع البخس. قد يكون التخوف من التواطؤ المالي بين حسني مبارك وعائلته والإخوان المسلمين مبالغا فيه، وقد يستغل موالو حسني مبارك حجم الأموال والأعمال الإخوانية لتوريط الجماعة في نشاطات وأعمال الاقتصاد الأسود الذي أتقنوه وتفوقوا فيه. ومثل هذا الموقف يتناقض مع موقف حسني مبارك في استخدام الإخوان ومعها عدد من الجماعات الإسلامية ك فزاعة لإخافة الغرب، وقلقه الفعلي من الإخوان لن يكون إلا في حالة حصولهم علي أغلبية برلمانية، وهو شيء الذي قد لا يتحقق في حياة حسني مبارك، وإذا ما تحقق ذلك في انتخابات برلمان 2010، وهذا تقدير سابق لأوانه. وقتها لن يُسمح للإخوان بتشكيل الحكومة، وقد يكون السيناريو الجزائري هو المطروح إذا ما استمرت موازين القوي الداخلية والخارجية علي حالها الراهن. ومعني أن يتمكن الإخوان من الحكم هو إغلاق الباب أمام وراثة الإبن للأب، ومعروف أن عائلة مبارك لن تتخلي عن خطة التوريث إلا عنوة، والأمر الأكثر ترجيحا هو استخدام سلطة الدولة والأمن لاحتواء الجماعة من ناحية، وتصفيتها اقتصاديا وماليا وضرب مصالحها المتشعبة من ناحية أخري، لكي لا تتمكن مستقبلا من المواجهة، وقد تكون التصفية علي نمط ما حدث مع شركات توظيف الأموال. مصر إذن مقبلة علي صراع من نوع جديد فالنفوذ والتأثير المالي والاقتصادي للإخوان المسلمين الذي قد يواجه بإمبراطورية عائلة مبارك ومواليها المالية، ولأن هذه العائلة تملك القرار السياسي فالاحتمال الأكبر أن مآل أي برلمان يحصل فيه الإخوان علي الأغلبية هو الحل فورا، وهذه الأمور الافتراضية قد لا تجد ظرفا مواتيا، لأن إيقاع الأحداث وتطورها من المتوقع أن يكون أسرع من هذه الترتيبات. خاصة أن مسار الصراع يبدو شاذا.. لأنه يدور بين جماعة سياسية محظورة قانونيا ورسميا، وبين نظام حكم يملك سلطة التنفيذ والتشريع والأمن، ونشأ عن ذلك شرعية جديدة، قد توصف ب شرعية الأمر الواقع ، التي فرضها الإخوان علي شرعية القسر التي تغطي تصرفات عائلة مبارك وخطواتها الممنهجة لاغتصاب الحكم، وما بين شرعية أمر واقع صاعدة، و شرعية قسر آفلة تضيع القواعد وتختفي الحدود بين ما هو مسموح وما هو محظور، وهي حالة تمثل ذروة الأزمة وتعبر عن إعلان واضح بسحب النظام اعترافه لنفسه بنفسه!!. أما علي جبهة أحزاب المعارضة الرئيسية، المعبرة عن تيارات حقيقية في المجتمع، مثل التجمع والناصري والوفد وحزب العمل المجمد، هناك من أعلن موتها بسبب أدائها الضعيف والمحدود، وأرجع البعض ذلك إلي ضعف الإمكانيات المالية، إلا أن هذا وحده لا يبرر الفشل، فلا الوفد اليميني حزب فقير، ولا حزب التجمع اليساري معدم، وإن كان الحزب الناصري يشكو الفاقة فإن حزب العمل المجمد كان في مقدوره دعم حملة لصالح مرشحيه القلائل، ودخول هذه الأحزاب في جبهة كان المفترض فيه أن يمكنها من التغلب علي الإمكانيات المالية المحدودة.. والسبب الحقيقي هو بنية الأحزاب ذاتها، مما جعلها تستسلم للقيود الحكومية وأبقاها حبيسة جدران مقاراتها، فانقطعت علاقتها بالناس، وإن كان المال قد ساعد الإخوان المسلمين إلا أنه لا يكفي وحده للنجاح، فالالتزام والتمرس والخبرة في التعامل مع الشارع ونجاحهم في منع التلاعب وحصارهم لمقرات فرز الأصوات في العديد من الدوائر، شل الأجهزة الرسمية والأمنية، ومنعها من اقتراف جريمة التزوير. وقد طرحت قضية مستقبل الحزبية والتعددية فيما بعد هذه الانتخابات نفسها علي المراقبين والمهتمين، وكان هناك ما يشبه الإجماع علي ضرورة البحث عن صيغ جديدة لمواجهة الأزمة الراهنة التي يعيشها الحكم والمعارضة، ولفت البعض النظر إلي أن الحزب الحاكم لا يختلف في ضعفه عن المعارضة، والفرق بينه وبين غيره هو اندماجه في الدولة ويتحرك بإمكانياتها، ولو ترك لإمكانياته وتهافت أعضائه لافتضح أمره أكثر من أحزاب المعارضة. وهذه الانتخابات التي علق عليها البعض آمالا عريضة لتكون نقطة تحول نوعية في حياة المصريين، الراغبين في تجنب التغيير العنيف، والميالين إلي أن يتم تداول الحكم سلميا، هذه الانتخابات تحولت إلي مشكلة بدلا من أن تكون حلا، وجاءت عملية سد المنافذ أمام التغيير السلمي لتضع مصر أمام احتمالات تجعل من وحشية نظام حسني مبارك وعائلته ومواليه، مصدرا لتغذية التوجهات الراديكالية، الدينية أو السياسية، ويدفعها إلي الظهور علي خشبة المسرح السياسي.. ومع أن قواعد اللعبة السياسية قد تغيرت فإن الوعي المحدود لدي قمة هرم السلطة بذلك، والشبق السياسي الشديد الذي يتحكم في تصرفاتها حجب عنها معرفة القواعد الجديدة، حيث تحطمت الخطوط الحمراء وسقطت جدران الخوف، وزاد يأس القوي السياسية من إمكانية تحول ديمقراطي سلمي يجنب البلاد مخاطر العنف والتغيير القسري، علي الأقل في ظل الوضع الراهن، وهذا جعل الانتخابات نهاية، بعد أن كان من الممكن أن تكون بداية لمرحلة جديدة، تستفيد من الحراك السياسي والاجتماعي الذي تعيشه البلاد طوال العام الأخير.. بدلا من ذلك انعدمت الخيارات، وبدت الانتخابات، أمام الأعين، عملا قذرا منفرا للمواطن ومبعدا له عن المشاركة، فلا يتبقي له غير التحرك الشعبي لوقف التداعيات المتوقع حدوثها بعد انتهاء الانتخابات، وقد لا تجد بعض القوي السياسية أمامها غير المغامرة بالثورة، أو المقامرة بالانقلاب العسكري. ----------------- القدس العربي 2005/11/19